ملخص
في مقال تحت عنوان “خريف آيات الله” نشرته “فورين أفيرز”، كتب كريم سادجادبور عن الفارق بين التبجح الأيديولوجي للنظام وبين إمكاناته المحدودة، فخلافة المرشد الأعلى على الأبواب، و”إيران تمثل الجمهور الأكبر المعزول عن النظام المالي والسياسي العالمي، اقتصادها هو الأكثر تعرضاً للعقوبات، عملتها الأكثر عرضة للخفض، جواز سفرها هو الأكثر رفضاً في العالم، والإنترنت هو الأكثر خضوعاً للرقابة، وهواؤها هو الأكثر تلوثاً في العالم”.
حديث الشرق الأوسط الجديد ليس جديداً، شمعون بيريز دعا في كتاب بعد حربي 1967 و1973 إلى شراكة “العقل والمال وقوة العمل” بين إسرائيل والعرب في شرق أوسط جديد.
وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تصورت ولادة شرق أوسط جديد خلال حرب 2006 بين إسرائيل و”حزب الله”، وبنيامين نتنياهو تباهى بعد حروب غزة ولبنان وإيران بالقول “غيّرنا الشرق الأوسط”.
الرئيس دونالد ترمب بشّر في قمة شرم الشيخ بعد وقف الحرب في غزة بـ “سلام الشرق الأوسط” وترجمته العملية إنه مشروع “الشرق الأوسط الأميركي”، وقبله تحدث المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي عن مشروع “الشرق الأوسط الإسلامي” بقيادة الجمهورية الإسلامية، لكن الشرق الأوسط القديم لا يزال صامداً، فلا خرائط سايس-بيكو تبدلت، ولا الوحدة بين مصر وسوريا أيام المد الناصري عاشت أكثر من ثلاث سنوات.
لا ثورات “الربيع العربي” غيّرت المجتمعات أو انتهت إلى ما هو أقل من الفوضى و”صوملة” أكثر من بلد عربي، ولا “دولة الخلافة” الداعشية التي ألغت الحدود بين العراق وسوريا كانت سوى مغامرة قصيرة بائسة.
ذلك أن من الصعب إعادة تشكيل الشرق الأوسط إلا بقوة حرب كبيرة، فالشرق الأوسط القديم “هندس” كياناته وحدودها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى بعد هزيمة السلطنة العثمانية، تاركين مكاناً لمولود إسرائيلي في “وعد بلفور”، وما تطور جاء بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الشرق الأوسط، بحسب كتاب للدكتور وليم كوانت الذي كان له دور في المساعي الأميركية لتسوية الصراع العربي- الإسرائيلي.
لكن ترمب يتصور أنه يستطيع إعادة تشكيل الشرق الأوسط بقوة الدبلوماسية الأميركية وتوظيف حروب إسرائيل على “حماس” و”حزب الله” وإيران في إقامة سلام يشمل المنطقة، وهذا رهان كبير على أوراق بعضها في اليد، وبعضها الآخر في الغيب، بعضها ضمن مصالح الحلفاء والأصدقاء، وبعضها الآخر في المحور المعادي لأميركا.
والواقع أن هناك نظرياً عدة مشاريع إلى جانب المشروع الأميركي، مشروع إسرائيلي ومشروع تركي ومشروع إيراني وبدايات مشروع عربي، لكن اللعبة الحاسمة هي بين المشروعين الأميركي والإيراني، ترمب يرى أن المشروع الأميركي واسع جداً، ولعله يتصرف على أساس أنه “بيت بمنازل كثيرة” بحسب كتاب المؤرخ كمال الصليبي عن لبنان، فالمشروع الإسرائيلي قابل للاحتواء وضمنه، بصرف النظر عن اختلاف المصالح أحياناً، والمشروع التركي يستطيع “التكيف” معه.
والمشروع العربي الذي يمكن أن تكتمل بداياته بالعودة إلى التحالف المصري- السوري- السعودي ليس خارج المشروع الأميركي حين يضمن بالفعل قيام دولة فلسطينية على أساس “حل الدولتين”، ويوقف التغول الإسرائيلي في لبنان وسوريا، واللعبة كلها ضد المشروع الإيراني، ومعه في آن، فلا أحد يعرف حتى تصبح الظروف ملائمة لمعاودة التفاوض بين أميركا وإيران اللتين تتحدثان رسمياً عن الاستعداد للتفاوض على صفقة، ولا أحد يجهل أن سلام الشرق الأوسط في حاجة إلى “ضرب رأس الأخطبوط” الإيراني بعد ضرب أطرافه في غزة ولبنان وقريباً في العراق لإنهاء الدور المسلح لـ 70 تنظيماً على ارتباط مع الحرس الثوري، بعدما خرجت طهران من سوريا بسقوط نظام الأسد.
أما إيران التي تتصرف إعلامياً كأنها منتصرة، وتصر على مواجهة المشروع الأميركي- الإسرائيلي، وتوظيف المكون المذهبي الشيعي في خدمة مشروعها على حساب الأكثرية العربية، فإنها تعيد تقوية أطراف الأخطبوط وحدها بالمال والسلاح وتقول إنها تعلمت “دروس سنوات” من حرب 12 يوماً ضدها.
والسؤال ليس إن كان قد بقي للمشروع الإقليمي الإيراني أي حظ في النجاح، بل هل بقي لدى إيران ووكلائها ما يمنع أو يعرقل “الهندسة” الجيو سياسية والاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط؟ والجواب هو: نعم. طهران تستطيع أن تعرقل لأن إسرائيل قادرة على عرقلة المشروع الأميركي إذا أصرت على رفض، لا فقط الدولة الفلسطينية، بل أيضاً مجرد فكرة الدولة، فضلاً عن أن ترمب ليس صبوراً، على عكس “الصبر الاستراتيجي” عند لاعبي الشطرنج في طهران.
لكن الجمهورية الإسلامية التي كانت ولا تزال تتخوف من عمل أميركي لإسقاط النظام، تبدو عشية تحولات داخلية لها تأثير بالغ في مستقبلها، ففي مقال تحت عنوان “خريف آيات الله” نشرته “فورين أفيرز”، كتب كريم سادجادبور عن الفارق بين التبجح الأيديولوجي للنظام وبين إمكاناته المحدودة، فخلافة المرشد الأعلى على الأبواب، و”إيران تمثل الجمهور الأكبر المعزول عن النظام المالي والسياسي العالمي، اقتصادها هو الأكثر تعرضاً للعقوبات، عملتها الأكثر عرضة للخفض، جواز سفرها هو الأكثر رفضاً في العالم، والإنترنت هو الأكثر خضوعاً للرقابة، وهواؤها هو الأكثر تلوثاً في العالم”.
وكل السيناريوهات التي تصورها سادجادبور حول من أو ماذا بعد خامنئي بدت سوداء: بوتين إيراني أو كيم جونغ أون إيراني، أو شيء من نموذج يوغوسلافيا أو باكستان، لا بل إنه سمع من صاحب تجربة هناك أن إيران اليوم هي “مجموعة مافيات متنافسة محكومة من الحرس، ولاؤها ليس للأمة ولا للدين ولا للأيديولوجيا بل للثراء الشخصي”، وسؤاله في النهاية هو: هل هناك “ربيع” منتظر أم “شتاء آخر”.
والمعادلة واضحة: لا سلام في الشرق الأوسط من دون دولة فلسطينية، ولا سلام مع النظام الإيراني ومشروعه الإقليمي، و”التاريخ للحروب وليس للسلام تاريخ”، كما قال هيغل.
- إندبندنت



























