يتحرّك الملف السوري اليوم داخل مساحة حسّاسة تُعاد فيها صياغة موازين القوة شرق الفرات، بعد الزيارة الأولى من نوعها للرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن. ليس واضحاً بعد ما إذا كانت الزيارة تشكّل نقطة تحوّل أو مجرد اختبار متبادل للنيات، لكنّ الثابت أنّ الزيارة قد تؤسس لما بعدها من تحوّل استراتيجي، باعتبارها بداية إعادة تنظيم العلاقة بين دمشق والولايات المتحدة على قاعدة مشتركة واضحة تنطلق بشكل أساسي من مكافحة تنظيم “داعش”، لتصل إلى ترتيب بيئة أمنية مستقرة في الشرق السوري. انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش” سيفتح الباب أمام إعادة بناء قنوات الاتصال بين الطرفين، في مرحلة حساسة تتشابك فيها أولويات الأمن، والطاقة، وحدود النفوذ.
ويبدو أن انضمام سوريا إلى إطار التحالف الدولي يأتي منسجماً مع الحاجة المشتركة إلى خلق إطار منظم لمحاربة خلايا التنظيم التي ما زالت تنشط في جيوب عديدة من سوريا لا سيما في شرق البلاد.
تنظيم قنوات الاتصال
ليس بالضرورة أن تُقرأ هذه الخطوة كتحوّل سياسي كامل، ولا كإعادة تعريف الهوية الدولية لدمشق، لكنها تشكّل بالضرورة انضماماً مهماً إلى آلية تعاون قائمة أساساً في المنطقة، وتُسهم في ضبط بيئة أمنية لا تزال شديدة الهشاشة.
من المحتمل أن واشنطن تعاملت مع انضمام دمشق إلى التحالف بوصفه خطوة عملية، تتيح اعتماد قنوات اتصال مباشرة، وترتيب أولويات مشتركة، من دون تحميلها أبعاداً سياسية إضافية. وفي المقابل، يمكن أن تتعامل دمشق معها باعتبارها جزءاً من مهام الدولة في إعادة بناء الثقة داخل المجال الأمني، وفي مساندة الجهود الإقليمية في مواجهة خطر لم يختفِ تماماً، وذلك أيضاً في وقت تواجه فيه البلاد تحديات إعادة بناء الأجهزة الأمنية والعسكرية بعد مرحلة طويلة من التصدع.
وتندرج مقاربة واشنطن للملف السوري، بعد زيارة الشرع، ضمن ما تصفه الأدبيات السياسية بسياسة “الانخراط المحدود”، وهي سياسة تعتمدها واشنطن منذ سنوات في الشرق الأوسط، وتقوم على الاكتفاء بإدارة الملفات الأمنية الحساسة من دون الالتزام الفوري أو الكامل بالدخول في شراكات استراتيجية واسعة أو تحمل التزامات سياسية ثقيلة. هذه المقاربة تفسّر سبب تعامل واشنطن مع انضمام دمشق إلى التحالف بوصفه خطوة عملية تتصل بمكافحة الإرهاب وضبط الحدود. وهي بذلك تحمل قدراً من البراغماتية يسمح بفتح قنوات اتصال فعالة ومتقدمة.
وإن كان من المبكر الحديث حتى الآن، عن أي مؤشرات على توسيع نطاق التنسيق العسكري بين واشنطن ودمشق، إلا أن زيارة الشرع فتحت الباب أمام احتمال إعادة تنظيم خطوط التواصل الأمني في المرحلة المقبلة، في إطار يتوافق مع أولويات التحالف الدولي واحتياجات الاستقرار داخل سوريا. ومن المتوقع، إذا تطوّر هذا المسار، أن يأخذ التعاون شكل خطوات فنية تتعلّق بإدارة ملف داعش وضبط المجال الميداني في المناطق الحساسة.
حدود التعاون المنضبط بين دمشق وواشنطن
قد يشمل ذلك، في حال قرر الطرفان المضي به، ترتيبات تقنية تتعلق بتبادل المعلومات الضرورية حول نشاط خلايا التنظيم، أو تنسيقاً ميدانياً يهدف إلى تجنّب أي تداخل غير مقصود بين التحركات. كما قد يُفتح المجال لعمليات دعم جوّي ضمن إطار التحالف في المواقع التي تشهد نشاطاً للتنظيم، وفق ضوابط واضحة تضمن بقاء هذا التعاون ضمن طبيعته الأمنية.
بهذا المعنى، يمكن القول إن أي تنسيق محتمل سيبقى، في حال حدوثه، مرتبطاً بالضرورات الأمنية المباشرة، من دون أن يؤدي بالضرورة إلى انتقال العلاقة إلى مستوى شراكة عسكرية واسعة لأن هذا المستوى يبقى مرهوناً بالتطورات السياسية والانفتاح على تطوير العلاقات الدبلوماسية.
في سياق مواز، فإن انضمام دمشق إلى التحالف الدولي يعكس استعداداً مبدئياً لدى واشنطن للتعامل مع دمشق كطرف يمكن أن يسهم في استقرار بيئة معقدة، هذا سيفتح هامشاً يسمح للطرفين بصياغة ترتيبات واقعية تخدم مصالح متقاطعة، خصوصاً في موضوع مكافحة الإرهاب وتأمين الممرات الحيوية.
كما يمكن قراءة الزيارة على أنها بداية لمرحلة اختبار أوسع، قد تسمح مستقبلاً بتطوير قنوات التعاون في ملفات إنسانية وخدمية مرتبطة بالاستقرار المحلي، مثل دعم البنى الأساسية، وهي مجالات تحرص واشنطن عادة على ربطها ببيئة آمنة ومنظمة.
هذه الجوانب تشكّل أرضية أولية يمكن البناء عليها بهدوء وتدرّج، إذا أثبتت التفاعلات اللاحقة قدرة الطرفين على إدارة الملفات المشتركة بروح مسؤولية وبراغماتية.
مقاربة حذرة لتنظيم العلاقة بين دمشق وواشنطن
على الضفة الأخرى، يُعدّ ملف قوات سوريا الديمقراطية أحد أكثر الملفات حساسية في المشهد الشرقي لسوريا، خصوصاً أن وجودها الممتد منذ سنوات جعلها جزءاً من البنية الأمنية المحلية التي لا يمكن تجاهلها عند مناقشة مستقبل التنسيق بين دمشق وواشنطن. ومع زيارة الشرع إلى العاصمة الأميركية، من الطبيعي أن يكون هذا الملف في الواجهة، باعتباره عنصراً يحتاج إلى إدارة دقيقة تُراعي تشابك المصالح وتعدّد الفاعلين في المنطقة.
هذا ويأتي الشرق السوري في صميم ما تُشير إليه الدراسات الدولية بمفهوم “حوكمة المناطق الهشّة”، وهي المناطق التي تتسم بتعدد مراكز السلطة وغياب المؤسسات الموحدة وتداخل الجماعات أو تعدد مستويات التدخل الخارجي. هذا النوع من البيئات يجعل أي ترتيبات أمنية أو سياسية عرضة للتعقيد والانكشاف، ويجعل من الضروري اعتماد قنوات اتصال منضبطة بين مختلف الفاعلين، بما في ذلك دمشق وواشنطن، لتجنب الفراغ الذي تستفيد منه التنظيمات المتطرفة. لذا فإن فهم الشرق باعتباره منطقة هشّة يساعد على تفسير أهمية أية خطوات نحو تنظيم العلاقات الأمنية وتقليل احتمالات الاحتكاك.
ورغم غياب المؤشرات حتى الآن على تغييرات جذرية في موقع “قسد”، يمكن القول إن المرحلة المقبلة قد تشهد ترتيبات أوسع تهدف إلى تنظيم العلاقة معها بطريقة تقلّل من التوتر وتُسهِم في خلق بيئة أكثر استقراراً. فمن المحتمل أن تستمر واشنطن في الحفاظ على علاقة أمنية معها بالحدود التي تتطلبها مكافحة داعش، من دون ربط هذا الدعم بأي مسارات سياسية. وفي المقابل، يبدو أن دمشق تتعامل مع وجود “قسد” بوصفه واقعاً يحتاج إلى إدارة مسؤولة، تسمح بإبقاء القنوات مفتوحة وتتيح صياغة تفاهمات محلية مرنة تتلاءم مع خصوصية كل منطقة.
وتشير تجارب عديدة في مناطق نزاع أخرى، من العراق إلى أفغانستان والصومال، إلى ما يُعرف بمفهوم “الاستقرار عبر التنسيق”، وهو نموذج يقوم على التعاون العملي بين الأطراف المتواجدة في منطقة نزاع من دون أن يعني ذلك وجود رؤية مشتركة للمستقبل. في هذا النموذج، يصبح الهدف الأساسي هو إدارة الفراغ الأمني بطريقة تمنع عودة التنظيمات المتطرفة، عبر تبادل المعلومات الضرورية، وضبط التحركات العسكرية، وتنسيق الجهود في المناطق الحساسة. وينسجم هذا المفهوم مع طبيعة المرحلة السورية الراهنة، حيث تبدو الحاجة أكبر إلى إجراءات تنسيق دقيقة.
نحو استقرار تدريجي شرقي سوريا
هذا النهج قد يساعد في تجنّب أي احتكاكات غير ضرورية في الشرق، ويخلق مساحات للتنسيق العملي في القضايا التي تتطلب جهداً مشتركاً، مثل ضبط الحدود، وتأمين القرى الواقعة على خطوط التماس، والتعامل مع التحديات المرتبطة بمرحلة ما بعد التنظيم. كما أن الإبقاء على خطوط التواصل بين جميع الأطراف يمكن أن يمهّد لخيارات أوسع في المستقبل، سواء في إطار الترتيبات الأمنية والإدارية في الشهور المقبلة أو في تحسين الخدمات داخل بعض المناطق، ما دام ذلك يتم بأسلوب تدريجي لا يسمح بظهور أية توترات.
بهذه المقاربة، يصبح ملف “قسد” جزءاً من معادلة أوسع تُدار بحذر وبراغماتية، ومن دون تجاهل تعقيدات المنطقة التي تحتاج إلى مقاربات عقلانية توازن بين المتطلبات الأمنية وحساسية البنية المحلية.
يظلّ الشرق السوري مساحة شديدة التعقيد، يتداخل فيها النفوذ الأمني والإداري بدرجات متفاوتة. وفي إطار هذا المشهد المركّب، تأتي قوات سوريا الديمقراطية باعتبارها أحد المكوّنات القائمة على الأرض، كجزء من شبكة من الفاعلين الذين تشكّل ممارساتهم اليومية جزءاً من ديناميات المنطقة.
ومع انطلاق مرحلة جديدة من الانخراط بين دمشق وواشنطن، يبدو التعامل مع هذا الواقع أقرب إلى محاولة تنظيم العلاقات الميدانية أكثر من كونه سعياً لإعادة تشكيل الخارطة السياسية، فالتواصل بين جميع الأطراف—سواء بشكل مباشر أو عبر آليات غير رسمية—قد يتّخذ في المرحلة المقبلة طابعاً عملياً يهدف إلى تخفيف التوترات، خصوصاً في المناطق التي تتقاطع فيها طرق الإمداد، أو تلك التي تنشط فيها خلايا داعش بين الحين والآخر.
ومن المرجّح أن تحافظ واشنطن على مستوى من التواصل الأمني مع “قسد” في الملفات التي تتطلّب تنسيقاً تقنياً، في حين تعمل دمشق على مقاربة تعتمد على إدارة الواقع الميداني بمرونة، بما يسمح بالحفاظ على الاستقرار دون فرض ترتيبات قسرية أو تغييرات سريعة في بنية السيطرة المحلية. هذا النوع من المقاربات قد يتيح فرصة لتهدئة خطوط التماس، وخلق بيئة أكثر قابلية للتعاون في الملفات التي تحتاج إلى جهد مشترك، مثل ضبط الطرق الحيوية، وتحسين شروط الأمان في المناطق المتجاورة.
وبذلك تصبح “قسد” جزءاً من سياق أوسع يتفاعل فيه الجميع وفق معادلات تتغير بهدوء، بما يعكس طبيعة منطقة تتحرك نحو تنظيم علاقاتها الداخلية تدريجياً، وبقدر من الحذر والواقعية.
- تلفزيون سوريا



























