
تظهر الشروخُ المجتمعية أبرزَ مُخرجات الحرب السورية الطاحنة التي عقَّدت المشهد الداخلي، باعتبارها حواجزَ وجوديةً تخلط بين ماضٍ جريحٍ وواقعٍ انتقاميٍّ، متّخذة ردّات فعلٍ متباينةٍ طغت عليها العصبية القَبَلية في ظلّ متاهةٍ يُرثى لها، تحوّلت تدريجياً أسئلةً مصيريةً معلَّقةً، خاصةً أن كل مكوّنٍ سوريٍّ يعيش زمناً نفسيّاً خاصاً به: من شهِدَ القصف والحصار يرى العالم بعين الخذلان، ومن عاش في مناطق النظام البائد نصّبَ نفسه فارساً ضدّ الإرهاب، أمّا ملايين اللاجئين والنازحين فيرون غربتهم جرحاً مفتوحاً لا يندمل. وفي الحقيقة يبدو كلُّ طرفٍ أسيرَ الذاكرة السورية المتناقضة، لا يرفض أن “يصبح جلّاداً جديداً باسم ضحيته”، على حدّ تعبير الروائي ألبير كامو، بينما في تجارب دولية مشابهة (رواندا وجنوب أفريقيا)، لم تبدأ المصالحة إلا عندما تحوّل الضحايا والجلّادون إلى رواةٍ لقصصهم أمام بعضهم بعضاً.
ومن حيث البُعد المعرفي، لا ريب أنّ سؤال الهُويَّة السورية لم يعد معطىً جاهزاً، خاصةً أنّ سوريّي الداخل والشتات يعانون ما يمكن تسميته “الاغتراب المُركَّب”، اغترابٌ عن الوطن وعن الذات، وحتى عن الآخرين، ولا إجابات شافية: من هو القنّاص؟ ومن هو الفريسة؟ بدلالة أن المظلومية لم تعد حالةً ظرفيةً مارقةً، بل أيديولوجيا موازية، وكلُّ ضحيةٍ ترى نفسها ممثِّلةً للمعاناة المطلقة، تطالب الآخرين بالاعتراف بها من دون أن تمنحهم الاعتراف في المقابل.
على التوازي، ومن جهة حتمية التغيير فإنّ المخاضات السورية بعد سقوط نظام الأسد تزاحمت تواريخها في زمن قياسي قصير، ومن الصعب قبول عفوية هذه الانزياحات الهائلة، بينما تتردَّد أسئلةٌ في كلّ محفلٍ إقليمي ودولي عن إمكانية حلٍّ سوريٍّ، تعزّزه الزيارات المكّوكية الدبلوماسية للرئيس أحمد الشرع، ومن ثمّ الموافقة على رفع اسمه ووزير داخليته من قائمة العقوبات الدولية. تمخّض عن ذلك كلّه زيارته واشنطن لتوقيع اتفاق انضمام سورية إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، في أول زيارة لرئيسٍ سوريٍّ منذ 79 عاماً.
إنّ الانقسام الداخلي وتناحر المظلوميات يمثّلان العقبة الكبرى أمام أيّ حلّ سوريّ مقبل
أمّا التحدّي الأكبر في السياق: كيف ستتعامل سلطة دمشق مع التنظيم الإرهابي الأكثر راديكاليةً وتوحّشاً، الذي قد يؤدّي إلى تماثل كبير في نتائج الفشل أو النجاح نسبة إلى الأسباب الملحّة التي قادت إليه؟ خاصةً أنّ البنية الأمنية والإدارية في سورية لا تزال متأثّرةً بالحرب الطويلة، وبالانقسام الداخلي، ما يجعل التنفيذ حساساً ودقيقاً.
في المقابل، ثمّة مداولات أميركية تقول: “إنّ رفع العقوبات مرتبطٌ بأن تُظهر الحكومة السورية نتائجَ ملموسةً”: تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإنهاء ملفّ المقاتلين الأجانب. وأيضاً، مراجعة سياساتها تجاه “الأقليات”… بينما يتردّد في الأروقة الجانبية حديثٌ عن نيّةِ فتح السفارة الأميركية في دمشق. وبالاستناد إلى ما تقدّم، ورغم شيوع الفردانية السلطوية التي تقدّم مثالاً شديد الكثافة لمشهد فوضوي تتشابك فيه السياسة بالدين، والهُويَّة بالتاريخ، يمكن الجزم بيقين أنّ بداية انفتاح سياسي بدأ يلوح في الأفق المظلم، كان مستحيلاً قبل سنوات.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ النظر إلى هذا التحوّل من حيث واقعه المحلّي، يعبّر عن إدراكٍ متبادلٍ لدى الأطراف الدولية بأنّ استمرار الجمود السوريِّ لم يعد يخدم أحداً. الولايات المتحدة، التي ظلّت تعتمد سياسة “الاحتواء والمراقبة والعقوبات”، باتت ترى أنّ إعادة إدماج سورية في النظام الدولي سيحقّق استقراراً أمنياً يحدّ من النفوذَين الإيراني والروسي في المنطقة، إذ كشف تقريرٌ لوكالة رويترز أنّ هناك مصادر قالت إنّ أميركا تُحضّر لإقامة قاعدة عسكرية في دمشق، ووسط نفي وزارة الخارجية السورية للخبر، فمن المرجّح أنّ هناك دراسة جدوى وجود أميركي موسّع في منطقة استراتيجية، في سياق اتفاقٍ أمني بين سورية وإسرائيل، يرعاه “شرطي العالم”.
وبمقاربة النظرة الواقعية بحلّتها البنيوية الجديدة، يدرك النظام السوريّ، أنّ بقاءه في عزلةٍ تامّة لم يعد خياراً قابلاً للاستمرار، فالأزمة الاقتصادية العميقة والانسداد السياسي وانعدام الأمن، كلّها تضغط باتجاه الانفتاح وإعادة بناء علاقات جديدة. ومن هنا يمكن قراءة توجّه الشرع نحو خطاب أكثر براغماتية، قوامه التعاون في مكافحة الإرهاب والانفتاح التدريجي على الغرب.
ومن حيث النسق الخارجي تُوضع سورية أمام اختبار صعب: كيف توازن بين تحالفاتها التقليدية ومصالحها الجديدة، خاصةً أنّ البيئة تبدو أكثر استعداداً لتسويةٍ شاملة؟ فالعواصم العربية الداعمة تبحث عن سبلٍ ناجعة لإعادة سورية إلى الحضن العربي، حتى الحيادية منها، والتي تتبنّى استراتيجية انتقائية تجاه الشرع، ترغب في إحياء العلاقات رغم التحفّظات السياسية والأمنية، نظراً لتاريخ السلطة الانتقالية ومكوّنات حكومتها. أمّا القوى الدولية، فتبدو منشغلةً بتقليل الصراعات المفتوحة وإعادة ترتيب ملفّات الشرق الأوسط وخرائطه بما يخدم الاستقرار. بناء عليه؛ فإنّ الحلّ السوريّ لم يعد يمثّل التساؤل العبثي: “إنْ كان ممكناً”، بل: “كيف، ومتى سيُنجز؟”، ولا سيّما أن فكّ الاستعصاء السياسي لا يجري عبر البوابة الدبلوماسية فحسب، بل يبقى داخلياً بامتياز، بانتظار مصالحة وطنية شاملة، تحقّق تقدّماً ملموساً في ملفّ الإصلاح السياسي الموعود.
المصير السوري امتحان حقيقي لقدرة الوعي الجمعي على تجاوز لعنة الهُويَّات الضيقة
في ضوء ما سبق، فإنّ تناول مآلات الراهن السوريّ على المديَين، المتوسط والبعيد، ينطلق من الأطر السياسية البيّنة حول التوازن ونمذجة الصراع: أول السيناريوهات المحتملة تطرح رؤية “الانفتاح المنضبط” الذي يضمن عودة سورية التدريجية إلى المجتمع الدولي، أمّا الثاني فيتمحور حول “الصفقة الكبرى” التي تتمخّض من تحالف أمني أميركي ـ سوري ـ إسرائيلي)، والثالث يتّخذ عنوان “العودة إلى المحور الشرقي”، (روسيا ـ إيران ـ الصين)، إذا فشل الانفتاح الغربي وعاد التوتّر، والرابع يتمحور حول “الانتقال السياسي المتدرّج” وبداية إصلاح داخلي واسع ينتهي بولادة نظام أكثر براغماتيةً وأقلَّ أيديولوجيةً، يجعل من سورية نموذجاً إصلاحياً استثنائياً في العالم العربي، أما السيناريو الأخير فيتحدّث عن استراتيجية “التوازن الدقيق”، أي سياسة المحاور المزدوجة، تحاول الموازنة بين الشرق والغرب عبر دبلوماسية الحياد المرن.
مهما تعدّدت سيناريوهات الحسم وكثرت التكهنات السياسية، يمكن تفادي بعض أوجه القصور في الرؤى والمقاربات مستقبلاً، فنحن أمام واقعٍ سوري متشظٍّ، يصعب ضبطه، بعد تحوّل النسيج الاجتماعي السوريّ المتنوّع لوحةً فسيفسائيةً متفسّخةً، لكن المؤكّد، أنه في ظلّ غياب الثقة المتبادلة، يصبح أيُّ اتفاق سياسي خارجي هشّاً وقابلاً للانهيار مع أول اختبار، ومن دون معالجة هذه الاختلالات، فإنّ أيّ عملية سياسية غير قادرة على تحقيق استقرار حقيقي. فالمصير السوريّ، في جوهره، امتحان للوعي الجمعي وقدرته على مواجهة إرثِ عقود طويلة من الصراع والانقسام، بهدف تأسيس مواطنة متساوية تتجاوز لعنة الهُويَّات الضيّقة.
ويمكن القول إنّ الانقسام الداخلي وتناحر المظلوميات يمثّلان العقبة الكبرى أمام أيّ حلّ سوريّ مقبل، فتجربة اللجنة الدستورية مثلاً، وما شابها من خلافات، تشير بوضوح إلى أنّ تصادم الرؤى يعرقل أيّ تقدّم ملموس. نافِلُ القول، الطريقُ نحو حلٍّ مستدام طويل وشائك، لكنّه يبدأ حتماً من قلب التصدّع السوريّ، ومن إرادة الشعب في بناء وطنٍ متماسك قادر على استيعاب مكوّناته كلّها، ومصالحة نفسه أولاً قبل أن يصالح العالم من حوله، كي لا يتحوّل السوريّ إلى “سيزيف” منسيّ، يدفع صخرة آلامه كلّ يوم إلى قمة الجبل رغم عبثية المهمة.
- العربي الجديد


























