تحمل زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى الصين، التي توجّه إليها أمس الأحد، للمرة الأولى بالنسبة إلى مسؤول في حكومة أحمد الشرع، دلالات وأهداف عديدة، تبدأ بتصحيح العلاقة مع بكين بعد سقوط نظام بشار الأسد، إضافة إلى محاولة الحصول على دعم من الصين لمشروع إعادة الإعمار في سورية، وإظهار الأخيرة أنها حريصة على التوازن في علاقاتها الدولية بعد زيارة الشرع إلى كل من روسيا والولايات المتحدة. لكن يبقى ملف المقاتلين الإيغور في سورية محور الاهتمام الصيني الأبرز.
وتوجّه الشيباني إلى الصين، أمس الأحد، للقاء مسؤوليها، علماً أنه كان قد قال في مقابلة مع قناة الإخبارية السورية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إن سورية “بحاجة إلى الصين في هذه المرحلة من أجل إعادة الإعمار”. وأضاف: “أعدنا تصحيح العلاقة مع الصين التي كانت تقف سياسياً إلى جانب نظام الأسد البائد، وتستخدم الفيتو لصالحه”.
أحمد القربي: عدم اعتراض الصين على رفع اسمي الشرع وخطاب من قائمة العقوبات إشارة إيجابية
ترتيب الأوراق مع الصين
وتدل زيارة الشيباني على أن دمشق بصدد الانفتاح على كل الجهات للابتعاد عن سياسة الاستقطاب والمناكفات الدولية. وترتيب أوراق العلاقة مع بكين، التي لطالما وقفت إلى جانب نظام الأسد، يمر عبر تبديد مخاوف الصينيين من وجود مقاتلين من حركة تركستان الشرقية (في إشارة إلى إقليم شينجيانغ)، هم اليوم مصدر قلق لبكين التي عبّرت أكثر من مرة عن أملها في اتخاذ دمشق التدابير اللازمة لمكافحة جميع “المنظمات الإرهابية” المدرجة على قائمة مجلس الأمن، بما في ذلك حركة “تركستان الشرقية الإسلامية” (إيغور). وكان مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة فو كونغ قد قال، في وقت سابق، إن بكين تشعر بقلق بالغ إزاء التقارير التي تفيد بأن الجيش السوري منح أخيراً رتباً عسكرية عليا لعدد من المقاتلين الإرهابيين الأجانب، بمن في ذلك رئيس الحزب الإسلامي التركستان المعروف أيضاً باسم حركة تركستان الشرقية الإسلامية عبد الحق التركستاني.
ولم تناصب بكين العداء الإدارة السورية الجديدة، بل دعت إلى رفع العقوبات المفروضة على سورية واحترام سيادتها واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن مرتفعات الجولان المحتلة، والالتزام باتفاقية عام 1974 بشأن فضّ الاشتباك مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. ولا يبدو أن الخوف الصيني من وجود مقاتلين إيغور في سورية سيقف عائقاً كبيراً أمام فتح صفحة جديدة في العلاقات مع سورية. كما أن الإدارة السورية الجديدة أرسلت تطمينات إلى بكين بأن المقاتلين الأجانب لن يشكلوا مصدر خطر على العالم، وأنها بصدد دمجهم في المؤسسة العسكرية في البلاد، من دون تولي أحد منهم مناصب قيادية في الجيش الجديد.
وتعليقاً على الزيارة، رأى الباحث السياسي أحمد القربي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن سورية “تريد تهدئة المخاوف الأمنية الصينية إزاء المقاتلين الإيغور”، مضيفاً أنها “تريد إسهاماً صينياً في ملف إعادة الاعمار”. وأشار إلى أن عدم اعتراض الصين على رفع اسمي الشرع ووزير الداخلية السوري أنس خطاب من قائمة العقوبات الدولية “إشارة إيجابية”، معتبراً أن زيارة الشيباني “تأتي في سياق الانفتاح على جميع الدول”.
من جهته، قال السفير السوري السابق في السويد بسام العمادي، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن الزيارة “تأتي استمراراً لبناء علاقات مع الدول الفاعلة”، مشيراً إلى أن بكين “يمكنها الاستفادة من الفرص التي تتيحها إعادة الإعمار” في سورية. كما اعتبر الباحث السياسي رضوان زيادة، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الهدف من زيارة الشيباني “تطبيع العلاقات مع الصين، خاصة لأنها عضو دائم في مجلس الأمن”، مشيراً إلى أن بكين “كانت لديها تحفظات عدة بسبب وجود الإيغور في سورية، وتريد وضع شروط قبل تعزيز العلاقات مع الحكومة السورية”. وأشار إلى أن دمشق “وضعت قيوداً على حركة المقاتلين الإيغور”، معرباً عن اعتقاده أن الجانب الروسي “ذلّل الصعوبات” أمام القيام بهذه الزيارة، وأن واشنطن “تتفهم دوافع سورية وراء هذه الزيارة”.
ويندرج الاتجاه شرقاً من قبل دمشق في سياق محاولات حثيثة لتفكيك التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها سورية في مرحلة انتقالية قلقة. ويبدو الاقتصاد والحصول على دعم ومساندة جدّية من الصين من أبرز الهواجس التي تحرك السياسة السورية إزاء بكين المهتمة، كما يبدو، بالملف السوري وتريد موطئ قدم لها في المنطقة الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، في ظلّ المناكفات الجارية بينها وبين الولايات المتحدة.
بسام العمادي: الصين كانت لديها تحفظات بسبب وجود الإيغور في سورية، وتريد وضع شروط قبل تعزيز العلاقات
وفي هذا الصدد، أعرب الباحث الاقتصادي عبد العظيم المغربل، في حديث مع “العربي الجديد”، عن اعتقاده أن سورية “تسعى إلى إدماج الصين شريكاً رئيسياً في ملف إعادة الإعمار وتمويل مشاريع البنى التحتية (كهرباء، نقل، إسكان وخدمات العامة)”. وتابع: “كما تبحث عن استثمارات صينية مباشرة في قطاعات الطاقة والصناعة التحويلية، بهدف نقل التكنولوجيا، واستعادة القدرة الإنتاجية المهدَّمة، وخلق فرص عمل للشباب السوري”. وبرأيه، تريد سورية “تنويع شركائها بحيث لا تُختزل بين الغرب وروسيا، مستفيدة من إعادة الانفتاح على لندن وواشنطن من جهة، وبناء محور متين مع بكين من جهة أخرى لتخفيف أثر العقوبات وإعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي”. وأضاف: “تريد سورية الحصول على تسهيلات تمويلية وتجارية مع الصين وتعاوناً مع مؤسسات تمويل آسيوية بما يساعد على تجاوز قيود الدولار والعقبات في تمويل واردات السلع الأساسية ومعدات إعادة الإعمار”.
ورأى المغربل أنه “من المنطقي أن تعمل دمشق على فتح السوق الصينية أمام صادراتها الزراعية والدوائية والمنتجات ذات القيمة المضافة، لتقليص العجز التجاري المزمن مع الصين وربط المنتج السوري بسلاسل التوريد الآسيوية”. وأشار إلى أن سورية “تولي أهمية خاصة لشراكة تكنولوجية مع الشركات الصينية في الاتصالات والرقمنة والطاقة المتجددة والمدن الصناعية، بهدف رفع إنتاجية الاقتصاد وتحديث البنية التحتية التقنية بتكاليف تنافسية”. وتابع أن دمشق تراهن على أن يتحوّل الحضور الاقتصادي الصيني إلى مظلة استقرار طويلة الأجل تُعزِّز موقعها التفاوضي في المؤسسات الدولية، وتُشجّع مستثمرين إقليميين ودوليين آخرين على دخول السوق السورية باعتبارها جزءاً من شبكة المصالح الصينية في المنطقة.
ضبط العلاقات
على الجانب الصيني، رأى الباحث الصيني في دراسات الشرق الأوسط في مركز ونشوان للدراسات الاستراتيجية في الصين ماو يانغ، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الزيارة تحمل آمالاً بشأن ضبط العلاقات مع الصين، كما تعكس توجهاً أوسع نطاقاً لدى القيادة السورية الجديدة في التطلع نحو الشرق لتجاوز الاشتراطات الغربية، وذلك انطلاقاً من الاعتقاد أن الشراكة مع الصين أقل إرهاقاً، فضلاً عن أن الصين هي الدولة رقم واحد في العالم في الاستثمار من دون أي شروط، كما أنها الأولى في العالم عندما يتعلق الأمر بالخبرة والكفاءة في البناء، وهذا ما تحتاجه سورية لإعادة الإعمار. لكنه لفت إلى أنه “يجب ألا نغفل المخاوف الصينية بشأن المقاتلين الأجانب، خصوصاً المتحدرين من شينجيانغ، وهذا أمر ينبغي على القيادة السورية أن تأخذه بعين الاعتبار في محادثاتها مع بكين، فسورية تمر حالياً بمرحلة انتقالية سياسية، وتواجه وضعاً أمنياً هشّاً ومهمة شاقة في مكافحة الإرهاب، وقد استغل العديد من هؤلاء المقاتلين هذا الوضع لمصلحتهم، ما يشكل تهديداً خطيراً لسلام وأمن سورية والمنطقة، وهذا ما حذّرت منه الصين مراراً”.
ماو يانغ: ينبغي أن يأخذ أي اتفاق في الاعتبار مكافحة الإرهاب للتقدم في ملف الإعمار
وأضاف يانغ أن التوافق، سواء بين البلدين أو حتى على نطاق أوسع، بشأن مكافحة الإرهاب وتحييد المقاتلين الأجانب ومنعهم من لعب أي دور في مستقبل سورية، يمثل أساس عملية إعادة الإعمار في سورية، وبالتالي ينبغي لأي اتفاق أن يأخذ في الاعتبار بالكامل حالة مكافحة الإرهاب، عدا ذلك سيكون من الصعب التقدم في ملف الإعمار وبناء شراكة حقيقية قائمة على الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة.
في المقابل، رأى الباحث المختص في شؤون الشرق الأوسط والمقيم في هونغ كونغ شاو وي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن توقيت الزيارة يحمل دلالات عدة، لأنه يأتي مباشرة بعد زيارة الشرع إلى الولايات المتحدة ولقائه نظيره الأميركي دونالد ترامب، وحصوله على دعم كبير تمثّل في رفع العقوبات عن سورية وعن الشرع شخصياً. وهذا يعني، بحسب شاو، أن القيادة السورية لم تذهب إلى الصين من موقف ضعف، ولن تستجدي بكين، والأهم من ذلك كلّه أنها لن ترضخ للضغوط الصينية في مسألة المقاتلين الأجانب، لأنها ببساطة حصلت في وقت سابق على ضوء أخضر أميركي لدمج هؤلاء في الجيش وانخراطهم في المجتمع السوري بعد سنوات طويلة من القتال. وأضاف أن القيادة السورية تريد فصل هذا الملف وإجراء محادثات مع الجانب الصيني تتعلق بالإعمار والشراكات المحتملة على قاعدة المصلحة ومن دون أي اشتراطات مسبقة، خصوصاً أن دمشق لم تعد بحاجة إلى البحث عن طريق الشرعية والنفوذ بعد استقبال قادتها في البيت الأبيض.
- العربي الجديد


























