لعل جميع الاقتصاديين الرسميين العرب، مثلهم مثل نظرائهم في دول معسكر التخلف، يبادروننا بأحاديثهم، في كل فعالية تعنى بالاقتصاد، حول تمكن اقتصادات بلادهم من تجنب آثار تداعيات الأزمة العالمية. لأنهم، وحسب رأي هؤلاء الاقتصاديين، مستقلون في عملية التنمية وأن مواطنيهم يأكلون مما يزرعون ويلبسون مما ينتجون.
أعتقد أن هذا الكلام أجدر أن يقرأ على مسامع أطفال ما زالوا في المرحلة الدراسية الابتدائية، وهناك احتمالات كبيرة في ألا تمر عليهم هذه الطروحات مرور الكرام. إن أي بلد لابد وأن يستورد، وهو سيستورد من السوق العالمية ووفق شروطها. وقد يكون مصدّرا، إذا فهو أيضا يصدر إلى السوق العالمية ووفق شروطها. وهذه العمليات التجارية تقتضي إجراء تحويلات مالية تتم عبر المنظومة المالية العالمية شاء من شاء وأبى من أبى. وعند تشكل فوائض في السيولة لدى دولة ما فإنه يتوجب عليها ادخارها كاحتياطيات بالعملات الصعبة وهي أولا الدولار الأمريكي يأتي بعده خيار اليورو وقد يكون الذهب.
بناء على ما تقدم وببساطة نرى أن أي اقتصادي يتحدث عن عدم تأثر اقتصاد بلاده بتداعيات الأزمة العالمية هو إما يميل إلى الخداع والتضليل أو أنه يتحدث عن اقتصاد مشلول تماما ويعيش على ظهر كوكب آخرأو أنه مبني على “النهب والبلطجة”.
ويمكننا أن نؤكد بأن تداعيات الأزمة العالمية أصابت اقتصادات الدول المتخلفة قبل أن تصيب بلدان المنشأ لسبب بديهي في العملية الاقتصادية وهو أن الدول الكبرى تعمل باستمرار على تحويل تداعيات أزماتها إلى الدول الضعيفة فإن طفح الكيل ستظهر لديها فيما بعد.
لماذا الآن؟
يمر النظام الاقتصادي العالمي اليوم في مرحلة الأزمة المستمرة وهو ما يلبث أن يتخلص من ذروة حتى ينتقل إلى ذروة أكثر حدة من سابقتها. في المراحل السابقة للأزمة الاقتصادية العالمية، جرى العمل على تعميق العسكرة وزيادة وتيرة التسليح وإشعال الحروب أكثر فأكثر حتى وكأن الأرض ضاقت بهذه الحروب خاصة وأن القضايا والذرائع الافتراضية التي تقام على أساسها يتضح زيفها يوما بعد يوم.
وبما أن الرأسماليين في الدول المتخلفة هم “محدثي النعمة” من البرجوازية الطفيلية والكومبرادورية، فنحن في مواجهة أقذر حالات الثراء إذ لدينا شريحة ينعدم لديها أي شعور إنساني وأي ولاء سوى للمال، أي أنها لا يمكن أن تكون وطنية وهي ديكتاتورية “طقموية” حتما. وبالتالي فإن تداعيات الأزمة العالمية انعكست باستمرار وخاصة ذروة المرحلة الأخيرة من الأزمة العامة، بإطباق القبضة الأمنية على رقاب المواطنين ليس العاديين من عمال وفلاحين وصغار كسبة فحسب بل وفئات رجال الأعمال الصغيرة والمتوسطة بشكل تام.
وتركزت القطاعات الاقتصادية الرئيسة والاستراتيجية في الدول المذكورة في أيدي عصابة نصّبت نفسها الوريث الشرعي والوحيد لمقدرات البلد وحيوات المواطنين. واقتضى ذلك إجراءات تجسدت في تشديد القبضة الأمنية وتوسيع إجراءات القهر والكبت والاضطهاد وقمع الحريات وهدر لكرامة المواطن حتى تجاوز ذروة الاحتمال فأسفرت تلك السياسات عن ثورات انطلقت من مسألة الذود عن “الكرامة” في سبيل “الحرية”، حيث أسقطت العصابات الحاكمة في هذه الدول من حساباتها أن الكرامة لدى المواطن تعني الكثير الكثير لأن غالبية الشعب لم تصل إلى تلك (المرحلة المتطورة) التي تبرر لها الحياة الذليلة إلا الهم عند “القلة الموالية” التي تعتاش على حساب وجود هذه الأنظمة كالطفيليات.
أما عن علاقة عصابات أو مافيات “محدثي النعمة” بالمنظومة الاقتصادية العالمية فهي كغيرها من “الكينونات التابعة” في المعمورة لا يمكن لها أن تحيا وتترعرع إلا بتوجيهات ورعاية الصهيونية “عابرة القوميات والأديان” التي تحدد لكل مافيا حصتها من “طورطة” الاقتصاد العالمي والمجالات المسموحة لنشاطاتها. وهكذا تنتقل الممارسات الصهيونية من الدولي الخارجي إلى داخل كل دولة على حدة وبذات الأسلوب. فيما تلعب المؤسسات المالية متعددة الجنسيات مثل صندوق النقد والبنك الدوليان دورا رئيسا في هذه العملية.
وتقام المشاريع، التي تحدد مجالاتها كما سبق وذكرنا الصهيونية العالمية، انطلاقا من قروض المنظمتين الدوليتين المذكورتين آنفا “صندوق النقد والبنك الدوليان”. وتخرج علينا الحكومات سنويا ببياناتها عن النمو، الذي يشكل في الواقع نسبة تافهة على طريق النمو العالمي. فيما تبين مؤشرات هذا النمو في الواقع ازدياد النهب والفساد في البلد لأن أي نمو في الإنتاج يجب أن تتقاسمه المافيا الحاكمة وهنا يتعمق الصراع في الأعلى وتضييق الخناق على رقاب المواطنين أكثر فأكثر، فهذا عرف لا يمكن التخلي عنه.
ونرى عبر كل العصور أن عسكرة البلاد أي “عملية شراء الأسلحة” وزيادة عملية التجنيد هي السبيل الأمثل والتقليدي لتوسيع عملية نهب موارد الدولة، ومن أجل ذلك لا بد من وجود عدو خطير وحالة توتر دائمة معه. ما يشكل مجالا حيويا لتجارة المثل الوطنية العليا. وهذه حالة مثالية لدى السلطة السورية.
كما إن المافيات الحاكمة في الدول المتخلفة تتصرف بثقة عمياء وتضرب عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية لأنها تؤدي فروض الولاء كاملة أمام “الصهيونية العالمية” ما يقتضي الغطاء الدولي والحماية لها. إلا أن الأمر ليس بهذه السذاجة وكل مرحلة تاريخية تحمل في طياتها معطيات ومتغيرات لا تتطابق وسابقاتها، تجد معها الصهيونية العالمية نفسها في ورطة وتعجز عن اتخاذ تدابير المساعدة والانقاذ اللازمة لدعم عملائها كون هذه عملية معقدة وشاقة بل ومع قيام الثورات الحالية تصبح مستحيلة. ما يدفع هؤلاء العملاء للتخبط والحديث عن “مؤامرات” خارجية وداخلية، ورسم قوى خيالية “مريخية” تنسب إليها المؤامرات، إلا أن هذا يصبح عديم الفائدة أمام تصاعد موجات الغضب وتبلورها في “ثورات شعبية ديمقراطية”.
يبدو أن عملية التنسيق بين الاحتكارات العالمية، التي تنقسم إلى فريقين أساسيين الأول مجمع الصناعات العسكرية والثاني الصناعات المدنية، هي مسألة تاريخية ترجح كفة أحدها على الآخر حسب مجموعة الظروف الدولية. ورغم تداخل مصالح قطاعات الإنتاج هذه إلا أنه يمكن تمييز مصلحة احتكارات صناعة السلاح في خلق الخلافات وإشعال فتيل الحرب باستمرار لأن إيراداتها رهن بسفك دماء الناس.
أما مجمع الصناعات المدنية، فهو رغم أنه يحصل على أرباح استثنائية خلال الحروب والتوترات الإقليمية مثل ما يحدث في قطاع الطاقة، إلا أنه يحتاج في مراحل تالية إلى استراتيجية مخالفة، لتنفيذ مشاريع استراتيجية خاصة في مجالات الطاقة ونقل بعض الصناعات إلى مناطق أخرى يمكن أن تحقق تسهيلات جدية في سبيل جني أرباح أكبر. عدا عن أن الدمار الذي تلحقه الآلة العسكرية من تخريب للبنية التحتية في المناطق المشتعلة، يقتضي فيما بعد إنشاء بنية جديدة وهكذا فهم يدمرون وهم يبنون على التوالي.
الثورات ومستقبل المنطقة العربية
لعل مصادر الطاقة والخامات الاستراتيجية الأخرى وطرق نقلها، تقع في صدارة قضايا الصراع الدولية والإقليمية. لذا نرى أن الثورات الجماهيرية العربية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط دقت ناقوس الخطر في معابد الدول الكبرى “الاحتكارية”، إذ أن الأطر القديمة المتمثلة في أنظمة القهر والعبودية أصبحت بالية ولم يعد في الإمكان الحفاظ عليها وحمايتها، خاصة وأن الصراع بين الدول الكبرى ذاتها وبينها وبين الدول الصاعدة يحتدم ويتعمق، وشرةط التفاهم على تقاسم مراكز النفوذ عند حدها الأدنى.
وبالنظر إلى استراتيجيات الدول الكبرى في منطقتي شمال إفريقيا والشرق الأوسط نجد أن المرحلة المقبلة تتطلب “السلام” وذلك لكي تتمكن من تنفيذ مشاريع الطاقة الاستراتيجية وتوطيدها نتيجة ازدياد الطلب على الاستهلاك في هذا القطاع.
وهذه المشاريع تشمل: توسيع أعمال استخراج الغاز والنفط في الجزائر وتطوير مشاريع النقل إلى أوروبا عن طريق فرنسا. وتطوير حقول النفط والغاز في ليبيا ومشاريع خطوط النقل إلى أوروبا مباشرة وإلى باقي بلدان العالم بالناقلات البحرية. وتوسيع وتطوير أعمال التنقيب واستخراج الغاز في مصر وصولا إلى استثمار الرصيف القاري المستكشف منذ سنوات طويلة في غزة. كما أن الأسلوب المتبع في العراق يعتمد على “سياسة السرقة الوقحة” للنفط، إلا أن هذا لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية وذلك بوجود عوامل أساس ثلاثة:1. الصراع الدولي للسيطرة على مناطق النفوذ الطاقوية. 2. الصراعات الداخلية وعجز النظام القائم عن حل معادلة توفيق المصالح بين المافيات المحلية. 3. نمو الوعي الجماهيري لواقع الابتزاز يحركه البحث عن الكرامة المغتصبة، تلخص ذلك في كلمات امرأة بسيطة مع مراسل إحدى القنوات الأجنبية “نريد أن نعيش مثلكم”.
ويصل بنا المطاف إلى إيران، إذ يفسر لنا الموقف المتردد والضعيف نسبيا في مسألة الدفاع عن النظام السوري. لأن إيران معنية إلى حد كبير في إحلال السلام والتراجع شيئا فشيئا عن لعب دور “الأزعر” في المنطقة، إذا تم الاعتراف لها بحقوق اقتصادية مقبولة. لأن إيران لديها طاقات كبيرة من مصادر الطاقة وأهمها الغاز وهي تبحث عن حل لمسألة حقول الغاز المتنازع عليها مع دول الخليج العربي (ونعتقد أن إيران لن ترفض الحل تحت المظلة الأمريكية)، عدا عن أن أراضي الدولة الإيرانية تشكل طريقا استراتيجية لعبور “غاز آسيا الوسطى” وبالتالي تنفيذ مشروع “نابوكو” لنقل الغاز الآسيوي إلى أوروبا.
ونحط رحالنا في تركيا التي تتمتع بحماية “المظلة الأطلسية” والتي تسعى (وتُستخدم في آن واحد) لتطبيق استراتيجية خاصة بها وغربية الأهداف، كي تصبح مركزا لعبور مجموعة كبيرة من مشاريع نقل مصادر الطاقة. وتحقق تركيا بذلك طموحات إمبراطورية قديمة جديدة في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بمباركة غربية مع تراجع دور إسرائيل التاريخي في المنطقة وبالتالي دور دول “الصمود” الافتراضي.
يتضح أن الثورات الجماهيرية في البلدان العربية أحدثت صدمة مفاجئة على الساحة الدولية وخاصة لدى الدول الامبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة التي بدورها اعتادت معرفة كل شيء وإدارة جميع الصراعات بما ينسجم ومصالحها الاستراتيجية. غير أن إهمال قانون “التراكمات الكمية التي تؤدي إلى تحولات نوعية جديدة” هو إما من قبيل الجهل وأو الإغراق في العنجهية والقوة. وإن تراكم القهر والسلب وضيق الحياة المعاشية والإنسانية متوجة بانتهاك منظم للكرامة والحق واستشراء الفساد دفعت الشعب لـ “حمل دمه على كفه” ومواجهة الرصاص بصدور عارية بحثا عن الحرية والكرامة فيما تشتد شراسة المافيات الحاكمة للحفاظ على الثروات التي نهبتها وحماية مصادر النهب ذاتها “المناصب”، وهي لا تدرك أن الأمر انتهى وأن الصهيونية العالمية “عابرة القوميات والأديان” التي أمنت لها الحماية في السابق أصبحت عاجزة عن القيام بهذه الوظيفة اليوم، وهي تعمل على صياغة لعبة جديدة مع حلفاء آخرين للالتفاف على هذا المد الثوري في محاولة لإجهاضه.




















