دول عديدة حقّقت أكثر من استقلال في تاريخها، وليس في الأمر مثلبة، إذ غالباً ما كان ذلك بقدرة شعوبها على طرد مستعمر محتلّ، أو إنهاء وضع شاذّ في ربوعها كأن يكون اعتداء أو حرباً أو اختياراً لمصير تريده غير الذي عاشته، فاللبنانيون، مثلاً، يؤرّخون لاستقلالهم الثاني-بعد الاستقلال عن فرنسا- بخروج قوات النظام السوري التي عاثت في ربوعه أكثر من 20سنة. أمّا سورية فكان استقلالها الأول في 8آذار 1920بعد إخراج السلطنة العثمانية، والثاني تحقّق في 28أيلول 1941 إثر استعادة الإنكليز (الحلفاء) سيطرتهم على سورية من قوات حكومة فيشي إبان الحرب العالمية الثانية، وكان للضغط الإنكليزي مفاعيله لدى الفرنسيين الذين حاولوا المراوغة والتملّص، وذلك ليس حباً بل خشية من اختلال موازين الصراع بوقوف السوريين، والمشرق العربي عموماً، مع الطرف الآخر(المحور)، فكان جلاء آخر جندي فرنسي في 17نيسان 1946. من هنا نجد أن سورية كيان اصطنعته على الورق بحدوده الراهنة اتفاقية سايكس _ بيكو، وتركته مفخّخاً بتنوّع إثنيّ ودينيّ وطائفي، يتخبّط في أزماته، جمعته الجغرافيا بين الحربين العالميتين وحسب، ولم يساعد الفرنسيون أو غيرهم إلا في تعميق الشروخ بين مكوّناته المتنوّعة لا جَسرِها، اعتماداً على مبدئهم الأثير “فرّق تسد”.
وظلّت سورية منذ استقلالها مجتمعاً لا ينظمه عقد اجتماعي قبلته وشاركت فيه القوى الاجتماعية والسياسية التي تشكّل خلطتها البشرية، فاستمرّت كذلك دون تحديد هوية وطنية سورية ديمقراطية جامعة، على الرغم من 16دستوراً وُضعت خلال مئة سنة، وتناسى الجميع، غفلة أو عنوة، أن الهوية الوطنية الجامعة، أساس استمرار وحدة الجغرافيا على تنوّع تاريخها وامتداده للشعب الذي ارتضاها عنواناً ومرتكزاً لحياته، وأساساً لرسم مستقبل واعد لأجياله، يحميها من حالة ما دون الوطنية التي أرادتها أنظمة الاستبداد، فعمّقت الصراعات البينية الطائفية والعشائرية…، وما فوق الوطنية، التي هامت بها النّخب وكثير من الأحزاب والتيارات السياسية.
بعد 10سنوات من ثورة السوريين التي قدّمت مئات آلاف الشهداء والمعتقلين والمغيّبين، وملايين المشردين واللاجئين، ودمار عمراني واجتماعي واقتصادي لا يمكن إعادة إعماره قبل عقدين، وأكثر، ومئات التريليونات من الدولارات، تمرّ الذكرى الـ75 لجلاء الفرنسيّين عن أرض سورية التي فقدت استقلالها؛ باستقدام نظام العصابة الذي تحكّم بأمرها للمحتلّين علناً، أو دفع الآخرين لاحتلال ما يريدون، ليبقى ممسكاً بسلطة يسيّرها مَن يحميه ويسانده في قتل وتشريد شعب طالب بالحرية والكرامة والديمقراطية، ولتكن سورية ساحة للصراعات الدولية، تقوم عليها توافقات دولية، وتُرصَف توازنات إقليمية، فأصبحت ترزح تحت نير احتلال من نوع جديد، تعدّدت فيه الأعلام وتنوّعّت الغايات، وغابت آفاق الخلاص في ظلّ اختلاف وتنابذ قوى الصراع التي بيدها، ووفقاً لمصالحها تسير الأمور، لا بيد السوريين الذين ارتهن بعضهم لقوى الأمر الواقع.
وإن كان الفرنسيون قد جلوا بعد ربع قرن، فإن جلاء هؤلاء في علم الغيب، والدول المتناحرة إن توافقت أو اتّفقت، وإن كنا-السوريين- قد حصلنا على استقلالنا لظروف الحرب العالمية الثانية، وضغوطات دولية، بالإضافة للنضال المستمرّ والثورات ضدّ المستعمر، فقد أثبتت الأيام أنه استقلال شكلي، تحقّق في مواجهة احتلال وموازين قوى وصراعات على سورية، تجلّت في لا استقرار عبر انقلابات ختمها حافظ الأسد بتفصيل سورية على مقاس أبده الذي أراده، واستمرّ على يد وريثه باستقدام احتلالات وإحياء ما كان يتّقد تحت الرماد من أوهام وضغائن ومشاريع أو أدوات لمشاريع الآخرين، ولن يكون لنا ظرف مطابق اليوم لتحقيق الاستقلال الوطني الحقيقيّ، بل علينا خلق معادلة جديدة، عنوانها العمل على عقد اجتماعي يجمعنا بهويّتنا الوطنية السورية أولاً، وخلق إطار يوحّد جهودنا ضد الاستبداد، ولأجل سورية حرّة وديمقراطية وتعدّدية مدنية لكلّ السوريين، دون نظر إلى دين أو قومية أو طائفة أو مذهب.