مقدمة:
قبل شهر تقريبا عقد فى استنبول، مؤتمر منظمة الدول التركية وتم الإعلان بأن الهدف الرئيس للمنظمة ، هو تأسيس وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في قضايا السياسة الخارجية، والاقتصاد، والمواصلات، والجمارك، والسياحة، والتعليم، والإعلام، والرياضة والشباب.
وتوسيع مجالات التعاون الدولي في العالم الإسلامي، وبين بلدان الشرق الأوسط والمنطقة الأوراسية، وترسيخ السلام والاستقرار فيها.
وإنشاء مناطق اقتصادية مشتركة، وإنشاء بنك للتنمية لتسريع العمل المشترك في مشروعات البنية التحتية.
وتبادل الخبرات العسكرية، عبر إجراء مناورات مشتركة، وإبرام صفقات بيع أسلحة ومدرّعات وعربات عسكرية.
وكازخستان هى إحدى دول منظمة الدول التركية ، وهى عضو فاعل فى المنظمة، لوضعها الاقتصادى والجغرافى. بل أن الرئيس الكازاخى، “نورسلطان نزار باييف” هو صاحب اقتراح إطلاق إسم منظمة الدول التركية، بدلاً من المجلس التركى.
لكن الوضع الاقتصادى فى كازاخستان ساء فى الثلاث سنوات الأخيرة، بسبب تدنى أسعار النفط، وجائحة كورونا مما أدى إلى زيادة التضخم لمستويات غير مسبوقة.
وكان الرئيس الكازاخى السابق، ” نور سلطان نزار باييف”، استقال قبل ثلاث سنوات بعد احتجاجات اندلعت فى عام 2019
وجاء الرئيس “قاسم جومارت توكاييف”، خلفًا لنزار باييف، عبر انتخابات مبكرة تم تزويرها لصالح توكاييف، وقد انتقدها فى حينها مراقبون دوليون.
وكان نزار باييف هو من دفع بتوكاييف إلى السلطة ليضمن استمرار سيطرته على مقاليد الأمور من الخلف.
وعلى الرغم من أن نزار باييف لم يعد رئيسا لكازاخستان، لكنه بقى مؤثرا في المشهد الكازاخي.
وأن احتجاجات الجمعة قبل الماضية كانت تهتف بالأساس ضد نزارباييف ويصفونه بالرئيس العجوز.
ومنذ رحيل نزار باييف ومجئ أوتو كاييف، لم تشهد الأوضاع الاقتصادية في البلاد أى تغيير أو تحسن، مع استمرار غياب الإصلاحات الحقيقية ، وتدني مستوى المعيشة، ومحدودية الحرية المدنية.
ثم جاء ارتفاع أسعار الغاز المسال، التي كانت في المتناول، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
وكالعادة سرعان ماتحولت الاحتجاجات ضد رفع أسعار الغاز إلى احتجاجات ضد فساد النظام الحاكم.
مظاهرات فجائية تربك المشهد الكزخى:
اندلعت الاحتجاجات في منطقة واحدة فى البداية، وبحلول يوم الثلاثاء الماضى كانت أنحاء كازاخستان كلها تعمها الاحتجاجات.
وبالرغم من أن الاحتجاجات بدأت سلمية، لكن سرعان ما تحوّلت إلى العنف، مع لجوء الشرطة للغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت، ضد الآلاف من المحتشدين في ألماتي – أكبر مدن كازاخستان وعاصمتها السابقة.
وبحلول يوم الأربعاء، أُعلنت حالة الطوارئ فى البلاد، لكن المحتجين استمروا في النزول إلى الشوارع.
وقامت السلطات على إثر ذلك بقطع خدمة الإنترنت في أجزاء عديدة من البلاد.
وحاول الرئيس الكازاخي حل الحكومة، وألقى عليها باللائمة في وصول البلاد إلى حالة الاضطراب، ووعد توكاييف بعودة أسعار الوقود إلى ما كانت عليه.
وقام المحتجون باجتياح مكتب عمدة مدينة “ألماتي”، ونهب المحال التجارية، وإضرام النار في السيارات.
فخرج المتظاهرون فى البداية إلى الشوارع في جاناوزين، منطقة مانغيستاو في غرب البلاد، للاحتجاج على ارتفاع أسعار الغاز النفطي المسال المستخدم في السيارات، ثم سرعان ماوصلت الاحتجاجات إلى مدينة أكتاو، على ضفاف بحر قزوين.
وقد تعامل الأمن مع الاحتجاجات بعنف، إلا أن الاحتجاجات تواصلت ولم تتوقف مما يشى بأن الأمر تجاوز قضية أسعار الغازالمسال، وأنه كما يقول المثل –النار تحت الرماد-، مما اضطر الرئيس الكازخى “قاسم جومارت توكاييف”، إلى توعد المحتجين برد حازم والاستنجاد بـ”منظمة الأمن الجماعي” الإقليمية التي تترأسها روسيا، وبالفعل استجابت روسيا لنداء توكاييف وأرسلت دفعة من القوات، للحفاظ على الاستقرارفى البلد الغنى بالنفط والمجاور لروسيا.
وبذلك يمكننا القول بأن هذه الإحتجاجات، التى اندلعت منذ أسبوع فى كازاخستان تخفى خلفها حقيقة مؤلمة وأنها لم تكن بسبب ارتفاع أسعار الغازالمسال -وإن كانت هذه الذريعة كافية للاحتجاجات- ولكن الاحتجاجات تنبئ عن “شعور بالظلم” لدى المواطن الكازخى الذى يعيش فى بلد، غني بالنفط واليورانيوم ومع ذلك يعانى من الفقر.
لأن المواطن الكازاحى لم ير أى تحسن فى أوضاعه المعيشية، وأنه لايستفيد من ثروات بلادة إلا فئة قليلة هى الطبقة الحاكمة ومن يدور فى فلكها.
“فأصبح الوضع مؤلم بالنسبة لمواطن يعيش في بلد مستوى الفقر فيه يصل إلى حوالي 13 بالمئة”.
لذلك بدء اليأس يتطرق إلى نفوس المواطنين، من إصلاح الأوضاع التى تزداد سوءً على سوء، في ظل غياب العدالة الاجتماعية.
وإذا أضفنا إلى ماسبق من ازدياد معدلات الفقر، وتردى الأحوال المعيشية، القمع السياسي الذي استمر “لفترة طويلة منذ استقلال البلاد في 1991″،عن الاتحاد السوفيتى، وأن الرئيس السابق “نور سلطان نزارباييف” هو الذي قاد البلاد منذ ثلاثة عقود، ولم يحدث تحسنا فى الأوضاع الاقتصادية، والحقوق والحريات.
وعندما خرج نزار باييف من السلطة جاء قاسم جومارت توكاييف في 2019، بانتخابات غير نزيهة ومشكوك فى نتائجها.
وكأن توكاييف جاء لتكملة مشوار نزار باييف الذي لم يختف من المشهد الكازخى ولكنه بقى يدير المشهد من وراء الكواليس .
لذلك طالب المحتجون برحيل نزارباييف، في إشارة إلى أنه هو من يدير المشهد.
التعامل الدموى مع الاحتجاجات
بعد اندلاع الاحتجاجات قال الرئيس الكازخى، في خطاب متلفز الجمعة 2 يناير: “لقد أصدرت أوامر لقوات الأمن وللجيش بفتح النار، بشكل مباشر بدون تحذير” رافضاً دعوات دولية للحوار، متسائلا “يا له من غباء! أي نوع من المفاوضات، يمكن أن تكون مع مجرمين وقتلة؟”.
وزعم توكاييف، أن إجمالي 20 ألف من “قطاع الطرق” هاجموا مدينة “الما اتا”، وأن “الإرهابيين” كان يتم توجيههم من الخارج.
كازخستان والاقتصاد المتميز
كازاخستان هى تاسع أكبر دولة في العالم ، من حيث المساحة ، حيث تزيد مساحتها عن 2,7 مليون كيلومتر مربع.
وتضم مركز قاعدة “بايكونور” الفضائية التي استأجرتها روسيا، والتي لا تزال أكبر منصة إطلاق في العالم بعد حوالى 60 عاما من انطلاق رائد الفضاء السوفياتي يوري غاغارين منها ليصبح أول رجل في الفضاء.
كما تتمتع كازاخستان بأكبر اقتصاد في آسيا الوسطى.
ويشكل النفط 21 % من إجمالي الناتج الداخلي للبلاد ، بحسب البنك الدولي الذي توقع نمو الاقتصاد بنسبة 3,7% هذا العام. كما تعد أكبر منتج لليورانيوم في العالم.
وتتوفر أيضا على كميات كبيرة من المنجنيز والحديد والكروم والفحم.
ومع ذلك هناك فساد كبير يضرب بجذوره بين أفراد النخبة الحاكمة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فقد صادرت الوكالة الوطنية للجريمة في بريطانيا في عام 2019 ، 3 عقارات في لندن تبلغ قيمتها 80 مليون جنيه إسترليني تخص ابنة وحفيد الرئيس الكازاخي السابق نزارباييف، وتم تجميد تلك الممتلكات للاشتباه في أن شراءها تم من عائدات الجريمة. ومع ذلك، أمرت المحكمة العليا البريطانية في ما بعد بإعادة الممتلكات.
كما اشترى تيمور كوليباييف صهر نزارباييف قصرا في أسكوت من عائلة الأمير البريطاني أندرو مقابل حوالي 20 مليون دولار في عام 2007، بزيادة قدرها 4 ملايين دولار عن السعر المطلوب، وقال بعض المراقبين : إن السعر المرتفع ربما كان محاولة لكسب صداقة الأمير أندرو.
كما أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير” نصح نزارباييف بعد حملة قمع ضد عمال النفط المضربين في 2011 أسفرت عن مقتل 14 شخصا على الأقل، وأظهرت وثائق مسربة أن بلير طلب حوالي 7 ملايين دولار كرسوم لنصيحته.
وهذا غيض من فيض عن فساد النخبة الحاكمة فى كازخستان ، وماخفى أعظم.
مطالب المتظاهرين سياسية وليست اقتصادية
حاولت السلطات احتواء الموقف ، وتهدئة المحتجين فقامت بحل الحكومة وإعادة أسعار الوقود إلى ما كانت عليه، إلا أن المحتجين رفضوا مغادرة الشوارع.
وهكذا فهم المحتجون بأن تغيير الحكومة، لن يأتي بتغيير الأوضاع أو تحسينها ، ومن خلال مطالب المحتجين الخمسة التى نادوا بها ،ندرك بأن دوافع المظاهرات لم تكن الاعتراض على رفع أسعار الغاز بل كانت مطالب سياسية بحتة.
وقد حدد المحتجون خمسة مطالب أساسية تتمثل فى الآتى:
1- تغيير حقيقي للحكومة
2- – انتخابات مباشرة لحكام المقاطعات – يتم تعينهم من قبل رئيس البلاد -.
3- عودة دستور 1993 الذي حدّد فترات الرئاسة وسلطات الرئيس
4- عدم اضطهاد الناشطين المدنيين
5- السماح بشغل مناصب لشخصيات لا تربط بينها وبين النظام الحالي علاقة
صراع روسي أمريكى مكبوت
عندما طلب الرئيس الكازاخى المساعدة من منظمة الأمن الجماعى التى تقودها روسيا لم تتأخر موسكو في تلبية الطلب الكازاخى وسارعت بتوفير الدعم الأمني لقواته، لاحتواء الأزمة ، وأرسلت عددا من القوات الروسية للسيطرة على الأوضاع.
كما أن روسيا لم تخف انزعاجها من محاولات القوى الإقليمية والدولية الدخول إلى مناطق وسط أسيا ، التى لاتزال تعتبرها روسيا ، من بقايا مستعمرات الاتحاد السوفيتى السابق، وأنها هى الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتى فوجود أى قوى إقليمية أو دولية تعتبرها روسيا تهديدا لمصالحها فى هذه المناطق وتعدى على نفوذها.
لذلك لم تتوان روسيا فى اتهام الولايات المتحدة الأمريكية، بأنها هى المحرك لهذه الاحتجاجات، وقد ردت أمريكا بالنفى ثم قالت لاحقاً على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكين : “أحد الدروس المستفادة من التاريخ الحديث هو أنه بمجرد وجود الروس في منزلك، يصعب أحيانًا دفعهم للمغادرة”.
وجاء الرد الروسى على تصريحات بليكن، بوصف تلك التصريحات بأنها مسيئة، قائلة: “عندما يكون الأمريكيون في منزلك، قد يكون من الصعب البقاء على قيد الحياة وعدم التعرض للسرقة أو الاغتصاب”.
وصراع القوى الدولية والإقليمية، أمر طبيعى لأن كازخستان غنية بموارد بالنفط واليورانيوم مما يجعلها محط أنظار القوى الكبرى المتصارعة على مناطق النفوذ والثروة.
لأن الرئيس الكازاخى السابق “نور سلطان نزار باييف” فتح الباب واسعاً أمام الشركات الأمريكية لتستثمر في مجال الطاقة.
كما وقعت الولايات المتحدة الأمريكية معاهدة عسكرية مع كازاخستان.
وكذلك وقعت اتفاقات اقتصادية مشابهة مع كل من الصين وتركيا والدول الأوربية.
لأن كازخستان كانت تقصد من من وراء هذه الخطوات، تخفيف الهيمنة الروسية التى تمارسها روسيا فى وسط أسيا ومنها كازخستان بالطبع وهو ما أغضب روسيا و جعلها تشعر بالإنزعاج من التمدد الأمريكى والغربى والتركى فى كازخستان .
“الخروج من العباءة الروسية
دخول كازاخستان في شراكات مع الولايات المتحدة وتركيا ساعد كازخستان على التحلل قليلاً من التبعية الروسية.
فالذهاب باتجاه الولايات المتحدة، وباتجاه تركيا التى تعتبر كازخستان من ضمن من العالم التركي و الناطق بالتركية.
وجدت فيه كازاخستان ملاذا للخروج من العباءة الروسية،
فقد عقدت عدة صفقات لشراء أسلحة من تركيا تمثلت فى صفقة شراء طائرات بدون طيار وشراء مدرعات ومعدات عسكرية أخرى.
وبهذه الخطوة نجحت كازاخستان في تحقيق التوازن في علاقاتها مع اللاعبين الجيواستراتيجيين… فعلى الرغم من تحالفها الوطيد مع موسكو، ظلت علاقاتها مميزة مع الصين وتستضيف استثمارات غربية أمريكية وأوروبية كبيرة جدا.
وانضمت إلى منظمة الدول التركية.
روسيا لاتفرط فى كازاخستان:
روسيا لايمكن أن تفرط فى الحليف الكازاخى، وإن سمحت على مضض، أوغضت الطرف عن بعض الاتفاقيات التى وقعتها كازخستان مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية والصين وتركيا.
لأنها تعتبر كارخستان بالنسبة لها حديقة خلفية مهمة.
وإذا أضفنا لذلك بعداً آخر، وهو ارتباط كازخستان بحدود مع روسيا، فتوقيع اتفاقيات مع الولايات المتحدة خاصة العسكرية، يعنى بأن القوات الأمريكية صارت على مرمى حجر من الحدود الروسية، وهو مايقلق روسيا بالإضافة إلى وجود موقع “بايكمور” الذي تطلق منه موسكو الصواريخ ثم لكونها موردا اقتصاديا”.
لكل هذه الأسباب مجتمعة لايمكن لروسيا أن تفرط فى العلاقة مع كازخستان، كما أنها لاتسمح بانهيار النظام الحاكم فيها وتظل حريصة على إعادة كازاخستان لبيت الطاعة الروسى.
“رسالة بوست”