يمكن اعتبار القرن التاسع عشر، وما شهده من نهضة، على مستوى العلوم، بشتى فروعها وامتداداتها، الانعطافة الحقيقية التي غيرت نظرة الباحثين والمفكرين إلى معالجة الظواهر الأدبية؛ إذ ظهرت «الحاجة لديهم إلى الاستعانة بالمنهج الوضعي الذي ارتبط بظروف هذه المرحلة بشكل مباشر» (سمير سعيد حجازي ـ مناهج النقد الأدبي المعاصر). والحق أن هذا النزوع العلمي للنقد المعاصر، كان يخفي رغبة كبيرة في تفجير الخواص العامة للظواهر الأدبية، من خلال تجريب مناهج قادرة على اختبار فروضها، عن طريق بذل جهود أمبريقية، لتبيان مدى صحة، أو خطأ هذه الفروض. وجدير بالإشارة بداءة، إلى أن تاريخ المناهج النقدية، ارتبط بشكل وثيق بتاريخ النظريات الفكرية والفلسفية. ولما كانت هذه النظريات، مجرد استجابة لحظية وظرفية لحاجة الإنسان الماسة لفهم كينونته، فإن كل نظرية، أو ترسيمة منهاجية، كانت تحمل في طياتها نواقص ملبدة برعونة مُمانعة، سرعان ما ستعزلها لاحقا.
إن المناهج النقدية، على تعددها وتنوعها، تظل مخلصة لإطارها المرجعي الأحادي البعد، في سعيها الدؤوب لترويض الخطاب الأدبي. لذلك، فمن السذاجة أن نعتقد أو نتوهم أن المنهج، كيفما كانت طبيعته، بمكنته أن يقدم لنا قراءة شاملة، غير منقوصة. لأن مجال اشتغاله، ليس هو مجال العلوم الطبيعية، حيث يغدو أفق الحقيقة ممكنا. إن العلمية التي قد يتوهمها البعض، حين نطبق المناهج الحديثة على النصوص الأدبية، سعيا وراء حقيقة وهمية، هي حسب كادامير، مجرد ادعاء دوغمائي. ومع ذلك، فنحن مطالبون بهذه السذاجة الواعية، ولو على سبيل المؤانسة والاستئناس، في أفق فهمٍ، ميزتُه الأساس التأجيل، الخاضع لسلطة النسقين الثقافيين: المُنتِج والمُستقبِل؛ الشيء الذي يجعل شرط النسق، في نظرنا، من اشتراطات القراءة، والفهم، والتأويل، وبذلك فإن مطلب المحايثة النسقية هذا، سيكون مفيدا في العملية التأويلية لا شك. إن المقاربة التأويلية المأمولة، في هذا الحيز/المقال، هي محاولة للقبض على الكينونة في المعنى؛ وتحديدا، في أحد ممكناته أو مآلاته، من خلال وضعنا النص أو الخطاب، في مواجهة مع ما يقابله من نصوص مضمرة، أو نصوص للكاتب نفسه، أو نصوص مشابهة لكتاب آخرين، أو للنسق العام المُنتِج له.
والأكيد، في نظر كادامير دائما، أن مسألة انفتاح التأويلية، على السياق الثقافي العام، الذي أنتج العمل الأدبي، مسألة مفيدة جدا، وضرورية، ذلك أن إعادة «بناء الظروف التي وصل إلينا بها عمل ما من الماضي، الذي كان متشكلا أصلا، أمر مهم بلا ريب لفهم هذا العمل» (كادامير- الحقيقة والمنهج). إن هذا الطموح، وعلى الرُّغم من سذاجته، كما يبدو ظاهريا، أو كما قد تتوهم كلُّ عينٍ عجلى، يأخذ مشروعيته ومصداقيته من الحوار الذي يمكن أن ينشأ بين النظرية التأويلية الحديثة، ونظرية الأنساق، في أفق أنموذج/ براديغم (دائرة تأويلية) يتسع لعديد الترسيمات المنهاجية؛ إذ يتوالج فيه، الأنموذج – المناهج ذات النزوع العلموي، والمقاربات التي تأخذ، في مساءلتها للنصوص والخطابات، بمعايير النظريات الأدبية التي تُعنى بخصائص النوع (الجندر)، والقيم الجمالية للنص.
ولا ريب في أن أهمية حضور نظرية الأنساق العامة، في العملية التأويلية المأمولة، وهي بالمناسبة ـ نظرية الأنساق ـ نظرية جديدة ظهرت أولا في علم الاجتماع، تأتي من كونها تربط الظاهرة الأدبية، كنسق خاص له نظامه الذاتي الخاص، بأنساق أخرى شبيهة أو قريبة، لها علاقة بما هو أدبي أو ثقافي، من جهة، ومتباعدة، لها علاقة بمجمل الأنساق الأخرى، من جهة أخرى. وهي بذلك ـ دائما نظرية الأنساق – تفتح العملية التأويلية على مناهج متعددة، قادرة على تحليل جل الأنساق المشكلة لنسق النص باعتباره نسقا مركبا/ متوالجا، ومتداخلا مع مجموعة من الأنساق، وباعتباره، عطفا على ذلك، نسقا متناميا كالشجرة.
والحاصل، إن هذا الأنموذج / البراديغم المقترح، هو سعيٌ حثيث نحو حوار يقظ بين تأويلية حديثة تهندمت بلبوس جديد، ونظرية الأنساق العامة التي ظهرت أول ما ظهرت، في علم الاجتماع، كبديل لنظريات أصبحت متجاوزة، في نظر البعض، كنظرية كارل ماركس، وماكس فيبر، ودوركايم وآخرين. هو أنموذج يجد في الفلسفة التأويلية سندا معرفيا، وإطارا مرجعيا، لا يعتقد البتة بالصرامة الموضوعية، في مجال الأدب، لأن التأويلية الحديثة، لا تقدم نفسها على أنها «موقعا مطلقا»، بل هي مجرد «طريقة في التجريب»(كادامير- التلمذة الفلسفية).
شاعر وناقد مغربي
- القدس العربي