عند زيارته الكنيسة المريمية قبل أسابيع، كتب الرئيس السوري أحمد الشرع في سجلّ كبار الضيوف آية من القرآن الكريم، وهي: “وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ”، بالإضافة إلى عبارة: “دمشق هي أول عيشٍ مشترك عرفته البشرية، ودوام ذلك عهدٌ وميثاقٌ وواجب، كلّ الحب.”
كذلك نشر السيد أحمد زيدان، مستشار الرئيس الشرع، على صفحته في (Facebook) ما يلي:
“زيارة السيد الرئيس أحمد الشرع للكنيسة المريمية حدث مفصلي هام، يؤسس لمرحلة مستقبلية في تاريخ التعايش السلمي بالشام.. ما خطه الرئيس في دفتر الذكريات عكس فهماً عميقاً لوثيقة التعايش التي خطها سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بإملاء رسول الله.. اليوم يتسلم نسختها الشرع من البطريرك يوحنا العاشر ليجدد عهد رسولنا عليه السلام…”
في حين نشر الإعلامي وحيد يزبك على صفحته الشخصية في (Facebook) منشورًا يقول فيه:
“نقلًا عن جورج برشيني، كتب الأب مارون توما وأضم صوتي إلى صوته…”
ثم أورد نصًا منسوبًا للأب مارون يقول فيه الأخير:
“العقد الاجتماعي الذي عليه تُبنى الدولة لا يتعلق بإحياء وثائق عمرها 1400 سنة كالعهدة العمرية على سبيل المثال. الخطأ القاتل الذي سيودي بالمسيحيين إلى الهاوية في سوريا هو القبول بإحياء هذه الوثائق، وهذا ما يروّج له مستشار السلطة الحالية، بأن الزيارة هي استمرار للعهدة العمرية، وهذا خطير جدًا لأنه يكرّس الذميّة لدى المسيحيين، ويرمي كل نضال المسيحيين عبر القرون للوصول إلى دولة المواطنة والمساواة بالحقوق والواجبات في الحاوية. القبول من قبل مقام بطريركية أنطاكيا النقاش بهذا الأمر في عقر دار البطريركية خطير جدًا ويرمي بالمسيحيين في بازار المقايضات السياسية. فهل ما حصل هو قبول من قبل مقام البطريركية بإعادة المسيحيين إلى عهد الذمية مقابل حياة المسيحيين؟ وهل هناك حياة في ظل العبودية؟ لأن الذمية هي عبودية، والعهدة العمرية والعهدة المحمدية التي ينكر المسلمون أساسًا وجودها هي تكريس لذميّة أهل الكتاب، وهنا تكمن الخطورة.”
في السياسة لا توجد حاجة لتبرير المواقف والتصرفات؛ فهي تسير وفق قوانينها الخاصة التي تستفيد من الظروف والمعطيات لتؤدي وظيفتها خدمةً لمشروع المشتغلين في حقلها.
إنّ التدقيق في الكلمة التي كتبها السيد أحمد الشرع في سجلّ كبار الضيوف، خاصة اختياره آية قرآنية بعينها، واتباعها بجملة تؤكّد مركزية دمشق في ضمير الوجدان السوري، ثم تأكيده على قدسية دوام العيش المشترك باعتباره عهدًا وميثاقًا وواجبًا، يعني لنا — ولربما لكثير غيرنا — القبول والإقرار العلني من أعلى هرم في السلطة بالتنوع والتعدد. يبقى أن نناقش آليات تنفيذ هذا الإقرار ونجاعتها، ثم أدوات قياس خطوات التقدم في الوصول إليه وتحقيقه، وأخيرًا مفاعيل ذلك على مستقبل البلاد وسكانها. أي باختصار: نحن نتحدث هنا عن منظومة العقد الاجتماعي السوري الجديد.
ثمّ يأتي الحديث عن الرسائل التي أراد السيد أحمد زيدان إيصالها من خلال استعماله مفردات بعينها في منشوره، فكل كلمة تحمل معنى محددًا وله دلالته الخاصة التي يجب قراءتها ضمن سياقها الذي أتت في خضمه. لا شكّ أن الرئيس ومستشاره يرميان عن قوس واحدة، فالتورية في كلام الرئيس يوضّحها التبيان الصريح في كلام مستشاره.
في السياسة لا توجد حاجة لتبرير المواقف والتصرفات؛ فهي تسير وفق قوانينها الخاصة التي تستفيد من الظروف والمعطيات لتؤدي وظيفتها خدمةً لمشروع المشتغلين في حقلها. السلطة لها موجباتها واعتباراتها التي لا تقف عند الدين أو الأخلاق أو الإنسانية، رغم أنّ خلوّها من بعض هذه العناصر يحوّلها إلى آلة همجية عمياء لا تقيم وزنًا للإنسان، الذي هو في النهاية هدف كل تنظيم بشري، أو يفترض أن يكون كذلك. ليس بعيدًا قول عبد الملك بن مروان: “هذا آخر عهدي بك” عندما طوى القرآن الذي كان يقرأ منه لمّا أتاه خبر اختياره خليفة للمسلمين من قبل أقاربه بني أمية. هذا لا يعني أن عبد الملك خرج من الدين أو الملّة، بل إنه ببساطة أخذ بقوانين العالم كما هو. وهذا — بالمناسبة — جوهر العلمانية التي كان النبي محمد ﷺ أول من كرّسها في سلوكه السياسي عندما كان يتصرف بوصفه نبيًا لا رسولًا، أي بوصفه إنسانًا يتعامل مع الحياة وفق قوانينها، وليس بوصفه رسولًا يبلّغ رسالة من الله لا يمكنه تجاوزها.
السلطة — أي سلطة — تبحث عن مرتكزات لتثبيت ذاتها، وتأخذ بأسباب ذلك حسب سياق تشكّلها. ففي دولة مثل إنكلترا، أول ديمقراطية في العالم، أو في أميركا أو ألمانيا، لا يتصور المرء طريقًا غير ذلك المتسق مع الدستور والقوانين. هذا سياق تشكّل الدولة ذاتها بدءًا من عصر النهضة، مرورًا بعصر الأنوار فالثورة الصناعية، وما تبعها حتى الآن من ثورات تكنولوجية ورقمية. في تلك الدول جاءت الديمقراطية ضمن تفاعل عجيب بين قوى الإقطاع التي حدّدت للملك الإنكليزي قواعد المشاركة، فانتقلت البلاد من فكرة الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية.
كانت كل عوامل التشكّل جزءًا من بناء الشرعية التي أورثت ما هي عليه الآن دول العالم الديمقراطي. أمّا في الدول المعلّقة بين نظام الملل والرعايا القديم الذي عاشت فيه شعوبها قرونًا طوال، ونظام المواطنة الذي لم تُسهم في بنائه وتشكيله، نجد الأمور مختلفة جذريًا.
من هنا يمكن مناقشة ما كتبه الأب مارون توما بأخذ سياق التشكّل الذي مرت به مجتمعاتنا، لا بإسقاط فكرة سائدة الآن على الماضي والتراث ومحاسبتهما اليوم بموازين القيم والمفاهيم الراهنة.
لم يكن سكان البلاد الإسلامية على مدار قرون يجدون غضاضة في الانتماء لعالمهم الواسع؛ فابن سمرقند يشعر أنه في بلده وبيته إذا حلّ في بغداد أو دمشق أو الرباط أو غرناطة. ولهذا، عندما جاءت صدمة الدولة الحديثة مع الاستعمار، لم يكن هؤلاء يشعرون بضرورة الانتماء إلى الكيان الجديد محدود الفضاء والمثقل بسلبيات ارتباط الحداثة بالمستعمر. من هنا لم تكن فكرة المواطنة أصيلة، لأنها لم تأتِ نتيجة للتطور الداخلي لهذه المجتمعات، بل من جرّاء الاحتكاك العنيف مع الخارج. وهذا لا يعني أننا لا نستحق المواطنة الكاملة والمتساوية، كما لا يعني أيضًا أن علينا بدء مسار الديمقراطية من الصفر كما بدأته شعوب أوروبا الغربية؛ فالمنجزات الحضارية تُورّث جملة وتفصيلًا بعد أن تصبح ملكًا للبشرية جمعاء، فنحن لا نخترع العجلة كلما أردنا السفر.
من هنا يمكن مناقشة ما كتبه الأب مارون توما بأخذ سياق التشكّل الذي مرت به مجتمعاتنا، لا بإسقاط فكرة سائدة الآن على الماضي والتراث ومحاسبتهما اليوم بموازين القيم والمفاهيم الراهنة. فالذمية لم تكن بوقتها تعني العبودية، بل تعني خضوع المجتمعات المهزومة لإرادة المنتصر من خلال تطبيق مفاهيم العصر التي كانت سائدة. فكل الشعوب المنتصرة كانت آنذاك تعامل الشعوب التي تُخضعها بالقوة لإرادتها بطريقة مختلفة عما تعامل به ذاتها. لم تكن فكرة المواطنة موجودة أصلًا، وهذا ليس حكرًا على العرب والمسلمين، بل كل شعوب العالم آنذاك — وحتى القرن التاسع عشر — كانت تتعامل بالطريقة ذاتها.
فصل القول: إن استحضار الماضي لبناء المستقبل لا يمكن أن يشكّل منطلقًا صحيحًا إذا ما انتُزع من سياقه وأُلبس لبوسًا معاصرًا. وهذا لا ينطبق فقط على من يخشى التعامل معه بمفهوم أهل الذمة، بل على من يرى إمكانية العودة إليه أيضًا باعتباره بديلًا عن مفهوم المواطنة الذي لا تستقيم الأمور من دونه في عصرنا الراهن.
- تلفزيون سوريا



























