أكد المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس باراك الخميس، ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عن تعهد الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع بالانضمام رسميًا إلى «التحالف الدولي لمحاربة داعش»، في خطوة وصفها دبلوماسيون غربيون بأنها تعيد واشنطن إلى قلب المعادلة السورية، لكن تحت عنوان مختلف هذه المرة.
هذا الإعلان يعكس تحولًا دراماتيكيًا في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، ويثير أسئلة حول مدى صدق المبررات الأمريكية في المنطقة.
زيارة «تاريخية» ورسائل متعددة
جاء الإعلان بالتزامن مع زيارة وُصفت في واشنطن بـ «التاريخية»، بعد استقبال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرئيس السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، كأول زيارة لرئيس سوري منذ الاستقلال عام 1946.
هذه الزيارة، التي استمرت لساعات، شملت مناقشات حول الأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والتعاون الاقتصادي، والعقوبات المفروضة على سوريا.
وفي بيان مطوّل، قال السفير الأمريكي توماس باراك، الذي يشغل أيضًا منصب سفير أمريكا في تركيا، إن الزيارة تمثّل «نقطة تحول حاسمة» في مسار سوريا، مشيرًا إلى أن الشرع تعهد، بحضور كبار المسؤولين الأمريكيين، بالانضمام إلى «التحالف الدولي ضد داعش»، والتحول من «مصدر للإرهاب إلى شريك في مكافحته»، على حد وصفه.
هذا التعهد يأتي في سياق عمليات مشتركة حديثة أسفرت عن قتل 5 عناصر من «تنظيم الدولة» واعتقال 19 آخرين، ما يعزز الرواية الأمريكية حول استمرار التهديد.
باراك أكد أن دمشق ستعمل، وفق التفاهم الجديد، على «تفكيك بقايا داعش، والتعامل مع تهديدات الحرس الثوري الإيراني، وحماس، وحزب الله»، كما كشف عن إطار عمل ثلاثي أمريكي-تركي-سوري يتضمن دمج «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في البنية الجديدة للدولة السورية، وإعادة تعريف العلاقات التركية-السورية-الإسرائيلية، وتعزيز التفاهمات حول غزة والحدود اللبنانية والسورية الجنوبية.
وفي موازاة ذلك، دعا السفير الكونغرس إلى الإلغاء الكامل لقانون قيصر، معتبرًا أن «إعطاء سوريا فرصة» يمر عبر تمكين الحكومة الجديدة من إعادة تشغيل الاقتصاد وفتح الباب أمام الاستثمارات الإقليمية، بما في ذلك مشاركة دول الخليج في إعادة الإعمار.
«محاربة داعش» أم إدارة التوازنات الإقليمية؟
رغم الطابع الاحتفالي الذي حاول باراك إضفاءه على الزيارة، يبقى السؤال المركزي: هل الوجود الأمريكي في سوريا لا يزال مدفوعًا حقًا بمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، أم أنه تحوّل عمليًا إلى أداة لإدارة النفوذ الإيراني والإسرائيلي والتركي في آن واحد؟ فأمريكا تدخل عامها السابع بعد إعلان هزيمة التنظيم عسكريًا عام 2019، إثر معركة الباغوز على ضفة نهر الفرات اليسرى، قرب نقطة التقاء الحدود السورية العراقية، لكنها تواصل التمسك برواية أن «الخطر لم ينتهِ بعد». ويجادل مسؤولون أمريكيون بأن الانسحاب الكامل سيمنح طهران وموسكو فرصة بسط نفوذ أكبر على الشرق السوري وموارده، خصوصًا حقول النفط والغاز في دير الزور والحسكة، حيث تسيطر واشنطن على نحو 90 في المئة من إنتاج النفط السوري.
في المقابل، يرى مراقبون أن شعار «مكافحة الإرهاب» تحول إلى غطاء سياسي لإدامة وجود عسكري محدود ولكنه فاعل، يسمح لواشنطن بالتحكم بجزء من الموارد وبخريطة التحالفات في المشرق، من دون الانخراط في حرب شاملة أو مشروع احتلال مباشر.
هذا الوجود يساعد أيضًا في دعم الشركاء المحليين مثل «قسد»، ولكنه يحفز الحكومة السورية الانتقالية إلى تنفيذ 61 عملية أمنية مؤخرًا أدت إلى اعتقال 71 شخصًا مشتبهًا بصلتهم بـ«تنظيم الدولة» تزامنًا مع توجه الرئيس الشرع إلى واشنطن.
قواعد أمريكية في الشرق والبادية
تنتشر القوات الأمريكية اليوم، وعددها يقدّر بحوالي 900 إلى 1500 جندي، في ثلاث مناطق رئيسية: ريف الحسكة، وريف دير الزور الشرقي، ومنطقة التنف في البادية السورية على المثلث الحدودي مع الأردن والعراق. في شمال شرق سوريا، تُدار حقول مثل العمر وكونيكو بالشراكة مع «قسد»، ما يحرم دمشق من أهم مصادر العملة الصعبة ويضعف قدرتها على التعافي الاقتصادي، بينما تبرر واشنطن هذا الوجود بالحاجة إلى منع «عودة داعش» وتأمين الموارد بوجه «الشبكات غير الشرعية». هذه الحقول تنتج نحو 100 ألف برميل يوميًا على أعلى تقدير، وتُستخدم إيراداتها لدعم الإدارة المحلية في المناطق الكردية.
أما قاعدة التنف، فقد تحولت من نقطة أمامية لمحاربة التنظيم في البادية إلى عقدة استراتيجية في المواجهة مع إيران. فمن هناك تراقب واشنطن، حسب خبراء عسكريين، خطوط الإمداد البرية التي تربط طهران ببغداد ودمشق وبيروت، وتمنع اكتمال «الممر البري» الذي يمنح طهران عمقًا لوجستيًا وعسكريًا متصاعدًا.
مع ذلك، تظهر من حين لآخر هجمات صاروخية أو تحركات لميليشيات موالية لإيران قرب مناطق النفوذ الأمريكي، ما يثير تساؤلات حول مدى قدرة واشنطن على فرض خطوط حمراء ثابتة في بيئة متغيرة وبدون غطاء دولي واضح. ورغم النفي السوري لإقامة قاعدة أمريكية في محيط دمشق، فإن خلطًا حاصلًا بين إنشاء نقطة إنذار مبكر أمريكية تخفف الاحتقان بين دمشق وتل أبيب وتسهل التوصل إلى «اتفاق أمني»، وبين إنشاء قاعدة أمريكية في ظل الانضمام لـ«التحالف الدولي لقتال داعش»، وهنا يرجح أن يكون أحد المطارات الواقع على تخوم البادية هو الهدف الأمريكي، لعدة اعتبارات، أولها أنها قواعد ضخمة وتأمينها أسهل من قواعد أخرى ملاصقة للقرى والبلدات في عدة مناطق سورية.
إسرائيل: حرب ظل مستمرة
رغم التدخل الإسرائيلي العنيف ضد دمشق، والذي بلغ ذروته في 16 تموز/يوليو حيث دمرت الطائرات الإسرائيلية كتلتين من أبنية وزارة الدفاع واستهدفت حرم قصر الشعب، مكان إقامة الشرع، فإن التدخل المباشر لواشنطن هو ما ردع نتنياهو من تصعيد أكبر.
إلى ذلك، يأتي التنسيق الأمني بين واشنطن وتل أبيب في سوريا، ضمن استراتيجية أوسع لـ«احتواء إيران» في المشرق العربي. هذا التنسيق يشمل تبادل معلومات استخباراتية ودعم لوجستي، ما يسمح لإسرائيل بتوجيه أكثر من 100 غارة جوية على أهداف إيرانية في سوريا خلال العام الماضي. في تل أبيب، قوبلت تصريحات باراك بترحيب مشروط. فإسرائيل ترى أن أي تقارب أمريكي-سوري يجب ألا يقيد حرية عملياتها العسكرية في الأجواء السورية، بل يمكن أن يشكل فرصة لإعادة رسم قواعد اللعبة في الجولان والجنوب السوري.
صحيفة «هآرتس» أشارت إلى أن هذا التحول قد يفتح نافذة لاتفاقات أمنية غير معلنة حول الحدود، خاصة مع مخاوف إسرائيلية من ترسانة حزب الله التي تعتمد على الدعم الإيراني عبر سوريا.
في أنقرة، أثارت الإشارة المتكررة في بيان باراك إلى «دور لقسد في الهيكل السوري الجديد» مخاوف إضافية. فتركيا تعتبر قسد امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وتصنفها تنظيمًا إرهابيًا. وجدد وزير الخارجية التركي، حقان فيدان، تأكيد بلاده على أن «قتال داعش لا يجب أن يخفي خلفه مشاريع انفصالية»، في إشارة واضحة إلى رفض أنقرة لأي صيغة تمنح الإدارة الكردية شرعية دولية أو دورًا دستوريًا مستقلًا. تركيا، التي نفذت عمليات «غصن الزيتون» و«نبع السلام» للسيطرة على مناطق شمال سوريا، ترى في الوجود الأمريكي تهديدًا محتملًا لأمنها القومي، خاصة مع دعم واشنطن لـ «قسد».
- القدس العربي


























