كشفت هيئة البث الإسرائيلية عن وصول المفاوضات الهادفة إلى توقيع اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل إلى “طريق مسدود”.
هذا الإعلان، الذي يأتي في ظل تقارير متضاربة عن تحركات دبلوماسية في الكواليس، يلقي بظلاله على أي آمال بتهدئة التوترات المستمرة منذ عقود على الجبهة الجنوبية لسوريا.
فقد أظهرت التفاصيل المُسربة نقطة خلاف جوهرية لا يمكن تجاوزها حالياً؛ إذ أعلنت إسرائيل عن رفضها على نحو قاطع طلب الرئيس السوري أحمد الشرع، بالانسحاب الكامل من جميع المواقع التي احتلتها جنوبي سوريا منذ الثامن من كانون الأول/ ديسمبر.
في المقابل، أبدت تل أبيب استعدادها لتقديم تنازلات محدودة بالانسحاب من “بعض النقاط فقط”، مشترطة ذلك بـِ”اتفاق سلام شامل وكامل” مع دمشق، وهو ما وُصف بأنه أمر “غير وارد حالياً”.
تساؤلات حول التصريحات الإسرائيلية المفاجئة
ويطرح هذا الإعلان الإسرائيلي وفي هذا التوقيت الذي تمر به سوريا، جملة من التساؤلات، منها: ما الدوافع الحقيقية وراء التصريحات الإسرائيلية المفاجئة؟ وما خريطة المطالب الأمنية والسياسية التي تضعها تل أبيب على الطاولة؟ والأهم من ذلك، ما السيناريوهات المتوقعة لمستقبل هذه الجبهة المتوترة بعد انكسار هذه الجولة من المفاوضات؟
وللإجابة عن تلك التساؤلات، قال رئيس مركز النهضة للأبحاث والدراسات عبد الحميد توفيق، في حديث لـِ “المدن”: “يبدو أن الموقف الإسرائيلي المُعلن هو انعكاسٌ دقيقٌ للنهج الإسرائيلي العام: السعي لتحقيق أقصى المكاسب من الدولة السورية، أو ما يُسمّى بسوريا الجديدة، في ظل وضعها الراهن الهش، الذي لا يُمكّنها من مقاومة أي ضغوط، سواء كانت عسكرية، ميدانية، أمنية، أو حتى سياسية”.
وتابع: “هذا الوضع يُعزى إلى سبب جوهري: ارتباط السياسة الإسرائيلية بمظلة دعمٍ أميركية واسعة؛ بل وصولاً إلى غطاءٍ سياسي وعسكري كامل. وبالتالي، فإن إعلان (وصول المفاوضات إلى طريق مسدود) قد يكون مؤشراً على أن إسرائيل بدأت تكشف عن أوراقها الحقيقية، وتعمل على استدراج المزيد من التنازلات، إما عبر مفاوضين أو وسطاء، وأبرزهم الأمريكيون، أو عبر الضغط المباشر على السلطة السورية”.
ويرى مراقبون، أن الإعلان الإسرائيلي لا يُقرأ فقط على أنه جمود تفاوضي؛ بل كتسريب مُوجّه ربما لتعزيز موقف تل أبيب التفاوضي، أو لامتصاص ضغوط داخلية، أو حتى لاختبار ردود الفعل الإقليمية والدولية في لحظة تحولٍ حسّاسة تشهد تراجع النفوذ الإيراني، وتبلور رؤية أميركية جديدة تجاه سوريا، وفق تعبيرهم.
إسرائيل وطمس حقيقة احتلال الجولان
وقال عبد الحميد توفيق، إن “إسرائيل تسعى إلى تحقيق أهدافها الجيوسياسية عبر: طمس حقيقة احتلال الجولان، وإدراجه ضمن الأرض الإسرائيلية، بالرغم من رفض المجتمع الدولي باستثناء إدارة ترامب السابقة، وفرض اتفاقية سلام مع سوريا، لا تُحقّق السلام بقدر ما تُحقّق مصالحها، على حساب السيادة السورية ومستقبل الدولة، كما تسعى إسرائيل إلى استغلال الأوراق الطائفية والعرقية في جنوب سوريا، حيث أُعلنت أكثر من مرة عن نيتها تحويل محافظات درعا والسويداء والقنيطرة إلى منطقة منزوعة السلاح؛ بل وجرى الحديث عن رغبتها في تأمين ممر جوي خاص لها في المنطقة، إذ تستند في ذلك إلى تيار محلي في السويداء تمثّله شخصيات مثل الشيخ حكمت الهجري، لتمرير أجندتها تحت شعارٍ زائف: حماية الأقليات، أو حماية الدروز في الجنوب، وهي حجة تُستخدم كغطاءٍ سياسي ودبلوماسي لشرعنة التدخل”.
ورأى أن “المطالب الإسرائيلية ليست تكتيكية فحسب؛ بل تحمل بعداً استراتيجيًاً واضحاً، وإن أُديرت بأسلوب تكتيكي، على طريقة قدمٍ بأخرى”.
وعن السيناريوهات المحتملة عقب هذا الإعلان الإسرائيلي، فهي قد تشمل تجميد المسار التفاوضي مؤقتاً، لكن المصالح الأميركية ستظل عاملاً محوريّاً فالولايات المتحدة، في سياق سياستها الإقليمية، تسعى اليوم إلى استقرار العلاقة السورية-الإسرائيلية؛ ليس بالضرورة عبر معاهدة سلام شاملة وهو أمرٌ بعيد المنال ما دام الجولان قد بقي محتلاً، ولا يمكن لأي سلطة سورية شرعية أن تفرّط فيه إلا تحت الإكراه، بيد أن واشنطن تُصرّ كما تظهر مواقفها الأخيرة على ضرورة بلوغ حالة استقرار في الجنوب السوري، باعتبارها شرطًا مسبقًا لانطلاق عملية التعافي السوري، الاقتصادي والسياسي والأمني والمجتمعي، وفق توفيق.
قلق إسرائيلي من معادلة سورية جديدة
وفي هذا السياق، يتزايد القلق في الأوساط الأمنية والسياسية الإسرائيلية من احتمال تغيّر جذري في المعادلة السورية، بعد الزيارة التاريخية للرئيس الشرع إلى البيت الأبيض، ولقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ووفق تقرير نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن تل أبيب تتخوّف من أن تُرغمها الإدارة الأميركية على الانسحاب من مواقع استراتيجية احتلّتها داخل سوريا، خصوصاً في منطقة جبل الشيخ، في إطار صفقة سلام أو ترتيبات أمنية جديدة ما بعد سقوط نظام الأسد السابق.
ومنذ دخول قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى عمق الأراضي السورية في 8 كانون الأول 2024، توسّعت عمليات التحصين والترميم على مرتفعات جبل الشيخ، حيث تواصل الجرافات الإسرائيلية العمل عند ارتفاع 2800 متر، استعداداً لفصل الشتاء.
ووفق الصحيفة، فإن إسرائيل تُجهّز الموقعين اللذين سيطرت عليهما ليبقيا “مأهولَين”؛ بل وتُنفّذ إجراءات بنىً تحتية متطورة، بالرغم من أن هذا لا يطمئن الدوائر الإسرائيلية إلى بقاء الاحتلال الدائم.
المصدر الحقيقي للقلق، وفق “يديعوت أحرونوت”، لا يكمن في القدرات العسكرية السورية؛ بل في التحوّل في موقف واشنطن: فاللقاء بين الشرع وترامب لم يكن رمزياً فحسب؛ بل فتح الباب أمام اتصالات غير معلنة، وإن كانت لم تُثمر أي تقدم حتى الآن، بين مبعوثين إسرائيليين ومقربين من القيادة السورية، في حين أن الهدف المعلن، وفق مراقبين، هو بلورة اتفاق جديد لوقف إطلاق النار، يُنهي الترتيبات التي تأسّست في العام 1974، ويطوي صفحة ما بعد نظام الأسد السابق.
لكن إسرائيل تدرك أن هذا الاتفاق، حتى لو لم يرقَ إلى مستوى معاهدة سلام أو تطبيع، قد يُصبح مُلزِماً لها بضغط أميركي مباشر.
ويرى مراقبون أن الإدارة الأميركية، المُقبلة على مرحلة إعادة رسم خريطة التحالفات في المشرق، قد ترى في الانسحاب الإسرائيلي من مرتفعات جبل الشيخ “هدية” رمزية لدمشق الجديدة، مقابل ضمانات أمنية واقتصادية، أو تعاون في ملفات إقليمية أخرى، أبرزها العلاقة مع إيران وحزب الله.
وقال عبد الرحيم إسماعيل، رئيس منظمة “مواطنون” السورية الأميركية، في حديث لـِ “المدن”: “تشير المعطيات إلى أن الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، تواجه حالة من الصدمة وخيبة الأمل بعد الاستقبال الحار والاستثنائي الذي حظي به الرئيس أحمد الشرع من قِبل الرئيس دونالد ترامب، فمستوى الحفاوة الذي أظهره ترامب، والذي لم يُظهره لكثير من القادة الذين استقبلهم خلال العام الماضي، أثار قلقاً متزايداً في الأوساط الإسرائيلية”.
وتابع: “تأتي هذه الزيارة في ظل تململ واضح داخل قاعدة مؤيدي ترامب من النفوذ المتزايد للوبي الإسرائيلي في الحياة السياسية الأميركية، وبناءً على ذلك، تسود مخاوف حقيقية في إسرائيل من احتمال لجوء الرئيس ترامب إلى الضغط لفرض انسحاب إسرائيلي إلى ما قبل حدود 8 كانون الأول/ ديسمبر، كجزء من الاتفاق الأمني المتوقع بين دمشق وتل أبيب، على غرار الضغوط التي مارسها سابقاً لإقرار صفقة وقف الحرب في غزة”.
وأشار إلى أن “ترامب يقدّم نفسه اليوم كرئيس يسعى إلى تحقيق السلام حول العالم، ويتطلع إلى تسجيل أكبر عدد من الاتفاقات في الشرق الأوسط، ومن هذا المنطلق، يرى أن الاتفاق الأمني السوري الإسرائيلي يمثل فرصة جديدة ليضيفها إلى سجله الدبلوماسي”.
وختم بالقول: “نظراً إلى موازين القوى الحالية، يُرجَّح أن يتمكن الرئيس ترامب من دفع إسرائيل إلى القبول بالانسحاب إلى ما قبل 8 ديسمبر، مع توفير ضمانات أمريكية للطرفين”.
انقسام إسرائيلي صامت
وفي الداخل الإسرائيلي، ثمة انقسام صامت، فالقيادات الأمنية تُحذّر نتنياهو صراحة من التفريط في قمة جبل الشيخ، التي تُعتبر “عين إسرائيل الاستراتيجية” في الجولان، فهي تتيح رصداً استثنائياً لمسارات التهريب (وفق الرواية الإسرائيلية)، وتمنح تفوّقاً تكتيكياً في أي مواجهة محتملة مع لبنان.
وفي هذا الجانب، قال الباحث في مركز عمران للدراسات، محمد زكوان كوكة، في حديثه لـِ “المدن”: “تدرك إسرائيل أن التحول الأميركي في سوريا واستقبال الرئيس الشرع في البيت الأبيض يشكل علامة فارقة على نهاية مرحلة، أكثر من كونه مجرد تغيير في الأسلوب الدبلوماسي. بالنسبة لتل أبيب هي لحظة انتقال الملفات من طاولة العمليات العسكرية إلى طاولة الخرائط والحدود والضمانات الأمنية”.
وتابع: “استقبال رئيس سوري جديد في البيت الأبيض يعني في القراءة الإسرائيلية، أن واشنطن بدأت مساراً جديداً: إسقاط نظام الأسد لم يعد هدفاً في حد ذاته؛ بل أصبح نقطة انطلاق لبناء نظام سياسي سوري قابل للدخول في منظومة إقليمية تقودها الولايات المتحدة”.
وأضاف: “هذا التحول وإن كان يحمل في طياته وجهاً إيجابياً لإسرائيل، يتمثل في إمكانية تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام سؤال صعب: ماذا عن الأراضي السورية التي سيطرت عليها إسرائيل خلال العام الأخير بذريعة ملء الفراغ الأمني بعد سقوط النظام؟”.
وزاد قائلاً:”من الواضح أن واشنطن تحاول إعادة رسم قواعد اللعبة؛ إذ لم يعد مسموحاً بالنسبة للأميركيين أن تبقى سوريا (منطقة رمادية) أو ساحة مفتوحة سواء أمام الميليشيات أو العمليات الجوية المتبادلة، فالإدارة الأميركية تتحرك نحو صياغة ترتيبات دائمة، يكون فيها لدمشق الجديدة دور فاعل، وللأردن والعراق وتركيا وإسرائيل أدوار متشابكة ومضبوطة ضمن معادلة أمن إقليمي، وفي سياق كهذا، يصبح وجود قوات إسرائيلية في عمق الأراضي السورية عبئاً تفاوضياً على واشنطن نفسها، لأنه يضعها في موقع من يحاول تسويق تسوية إقليمية، في حين يتجاهل واحداً من أوضح انتهاكات مبدأ (عدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة)، ويضعها في خانة ازدواجية المعايير، خصوصاً أن الولايات المتحدة تعمل وفق منطق الحزمة الشاملة لتسوية الملف السوري، فأي اتفاق سلام أو تهدئة دائمة بين سوريا وإسرائيل لن يكون مجرد ترتيبات أمنية على الحدود؛ بل سيكون جزءاً من سلة أوسع تشمل مساعدات اقتصادية لسوريا، وضمانات أميركية لإسرائيل، وربما أدواراً عربية في إعادة الإعمار، وستسعى إدارة ترامب لتقديم هذه السلة للجميع بوصفها (صفقة متوازنة)، وهذا ما يعني أن قبول دمشق بالتحالف مع معسكر غربي، وإنهاء أي ارتباط بإيران مع تحجيم الدور الروسي، سيُقابله على الأرجح طلب واضح من إسرائيل بالانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها بعد سقوط النظام السابق”.
واعتبر أن هذا ما يفسر خشية تل أبيب من أن تُطالب، في إطار “اتفاق سلام/ هدنة مع سوريا” ترعاه الولايات المتحدة، بالانسحاب من المواقع السورية التي دخلتها بعد سقوط المخلوع بشار الأسد، وبالتالي ومن منظور صانع القرار الأميركي، لا يمكن مطالبة دمشق الجديدة بالابتعاد عن إيران، والانخراط في ترتيبات أمنية مع إسرائيل، وقبول رقابة دولية على حدودها، في الوقت الذي تمنح فيه تل أبيب ضوءاً أخضر للاحتفاظ بمكاسب ميدانية حديثة خارج أي إطار قانوني أو تفاوضي، وفق كلام كوكة.
كما أن الجولان، وفق كوكة، لا يزال يضم نحو 70 ألف سوري، يعيشون في قرى ريف القنيطرة، وسط شبكة من المواقع العسكرية المتنقّلة والمجهّزة ثمانية مواقع رئيسة، موزعة على مسافة لا تتجاوز بضعة كيلومترات من الخط الفاصل.
موقع إسرائيل التفاوضي أقل راحة
وفي رد على سؤال: ما الذي يدفع إسرائيل للاعتقاد بأن واشنطن قد تفرض عليها الانسحاب من مواقع سورية؟
أجاب كوكة: “إلى جانب ذلك، تدرك إسرائيل أن موقعها التفاوضي هذه المرة أقل راحة مما كان عليه في مراحل سابقة؛ فبمقابل حاجتها لاستمرار المظلة الاستراتيجية الأميركية وفي ظل بيئة دولية مضطربة، وفي ظل دفع عربي إقليمي واضح للقبول بحكومة دمشق كضابط أمني للجنوب السوري على الرغم من التخوفات الإسرائيلية، وبما أنه ليس من مصلحة تل أبيب الذهاب إلى مواجهة علنية مع واشنطن حول مسألة يمكن تقديمها للرأي العام الإسرائيلي على أنها (تنازل محدود مقابل اعتراف عربي ودولي أوسع وأمن حدودي أفضل).
وبناءً عليه، يمكن القول إن مصدر القلق الإسرائيلي لا يكمن فقط في مضمون (اتفاق سلام/ هدنة مع سوريا)؛ بل في المنطق الذي يقف وراءه ألا وهو الانتقال من منطق إدارة الصراع إلى منطق تسويته، ومن سوريا الهشة على حدود الأراضي المحتلة الشمالية إلى سوريا الشريكة في معادلة إقليمية، وهو انتقال يعني بالضرورة تقليص هامش الحركة الإسرائيلية على الأرض، سواء في شكل انسحاب مباشر من المواقع التي احتُلّت أخيراً، أو في صورة قيود متزايدة على حرية العمل العسكري في الجبهة الشمالية، وفق وجهة نظره.
ووسط كل ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في تل أبيب: هل ما تزال واشنطن ترى في إسرائيل “حليفاً لا يُستعاض عنه”، أم أن مصالحها مع دمشق الجديدة تتفوّق على التزاماتها التاريخية تجاه الاحتلال الإسرائيلي؟


























