نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا لمراسليها إدوارد وونغ ومايكل كراولي وديكلان وولش، قالوا فيه إن جهود الولايات المتحدة لرعاية العملية الديمقراطية في السودان انتهت بالحرب.
فقد تعامل مسؤولو إدارة بايدن والشركاء بسذاجة مع نوايا الجنرالين المتنافسين وفشلوا في تقوية القادة المدنيين. فقبل أسابيع، شعر الدبلوماسيون الأمريكيون أن السودان يقف على حافة اتفاق مهم يمكن أن يسهم في التقدم نحو عملية التحول الشامل من ديكتاتورية عسكرية إلى ديمقراطية حقيقية، ويحقق في النهاية الوعد الذي حملته ثورة 2019. فقد أصبح السودان امتحانا مهما للسياسة الخارجية الأمريكية التي يهدف من خلالها الرئيس جو بايدن لتعزيز الديمقراطية حول العالم، وإضعاف القادة الفاسدين بشكل يعطي الدول القدرة للوقوف أمام الصين وروسيا والدول المستبدة الأخرى.
تعامل مسؤولو إدارة بايدن والشركاء بسذاجة مع نوايا البرهان وحميدتي وفشلوا في تقوية القادة المدنيين بالسودان
وفي 23 نيسان/ أبريل، وجد الدبلوماسيون الأمريكيون الذين كانوا جزءا من المفاوضات بالسودان، أنفسهم يغلقون أبواب السفارة ويهربون من الخرطوم في رحلات ليلية سرية، حيث انزلقت البلاد نحو حرب أهلية محتملة. ويحاول المسؤولون في إدارة بايدن والشركاء لهم، العمل على إقناع الجنرالين المتحاربين الالتزام بوقف إطلاق النار وإنهاء الأعمال العدائية، في وقت أجلت فيه الحكومات الأجنبية رعاياها وسط القتال الذي أدى إلى مقتل 528 وتشريد أكثر من 330 ألف شخص، مع أن الحصيلة النهائية قد تكون أعلى من أرقام الحكومة السودانية.
والسؤال الملحّ هنا، فيما إن أساءت الإدارة الأمريكية التقدير في محاولة دعم الديمقراطية في بلد معروف بتاريخه من الحكم العسكري ومخاطر التفاوض مع رجلين عسكريين قويين، أطلقا تعبيرات عن الديمقراطية دونما الوفاء بالوعود. ويقول النقاد إن إدارة بايدن، بدلا من تقوية القوى المدنية، أعطت أولوية للتفاوض مع الجنرالين، عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، ومحمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع.
وقال أمجد فريد، المستشار البارز لرئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، إن الدبلوماسيين الأمريكيين “ارتكبوا خطأ بتدليل الجنرالين، وقبول مطالبهما غير المنطقية، والتعامل معهما كلاعبين سياسيين طبيعيين” و “هو ما غذى شهوة السلطة لديهما ووهم الشرعية”.
ويتساءل محللون إن كان لدى المسؤولين الأمريكيين النهج الواضح لمواصلة الدفع بأجندة بايدن وتقوية الديمقراطية.
وتقول الصحيفة إن العنف في السودان يخلق فراغ السلطة الذي حاولت إدارة بايدن تجنبه، فمرتزقة فاغنر الروس هم جزء من لاعبين يحاولون سد الفراغ، حسبما يقول المسؤولون الحاليون والسابقون الأمريكيون.
وقال جيفري فيلتمان، المبعوث السابق للقرن الأفريقي: ” لو استمر هذا القتال، فسيغذي الرغبة لدى القوى الخارجية التي ستقول: لو أراد هؤلاء الرجال القتال حتى الموت، فما علينا إلا الذهاب إلى هناك لأن هذا الرجل أو تلك المؤسسة ستفوز”، وأضاف: “لو لم يتحقق وقف إطلاق النار، فلن تحصل على بؤس شعب من 46 مليون نسمة” بل “ستزيد رغبة القوى الخارجية لزيادة شحن القتال والتدخل المباشر”.
وقال حمدوك إن حربا أهلية في السودان ستجعل الحروب في اليمن وسوريا وليبيا تبدو “لعبة صغيرة”.
حمدوك: الحرب الأهلية في السودان ستجعل الحروب في اليمن وسوريا وليبيا تبدو لعبة صغيرة
وبالنسبة للولايات المتحدة، فجهودها لمنع عودة الطغيان إلى السودان، كانت لها دور غير عادي بعد عقود من المذابح الكبيرة، كما كان السودان ملجأ للإرهابيين بمن فيهم أسامة بن لادن الذي عاش هناك بداية التسعينات. وفي عام 1998، أمر الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، بضرب مصنع للأدوية في السودان زعم أنه يستخدم لصناعة الأسلحة الكيماوية، مع أن المعلومات الاستخباراتية كانت مشكوكا فيها.
ولم يتم شطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب إلا بعد موافقة الخرطوم على خطط دونالد ترامب لتطبيع العلاقات مع إسرائيل عام 2020. ويقول فيلتمان وغيره من المسؤولين الحاليين والسابقين، إن دعم الديمقراطية يجب أن يكون حجر الأساس للسياسة الخارجية الأمريكية في السودان، وفي ضوء التطلعات التي عبّر عنها السودانيون في احتجاجات عام 2019، والتي أطاحت بالرئيس عمر حسن البشير.
ويطالب قادة الكونغرس إدارة بايدن بتعيين مبعوثين خاصين للسودان. وتأتي النكسات السودانية بعد خيبات أمل ديمقراطية في شمال أفريقيا، بمن فيها الثورة المضادة في مصر قبل عقد، وحوالي 10 أعوام من الفوضى السياسية في ليبيا بعد الإطاحة بالعقيد معمر القذافي، وعودة حكم الرجل الواحد إلى تونس بعد عقد كان فيه البلد المثالَ الوحيد عن نجاح ثورات الربيع العربي 2011.
وقاد سقوط البشير قبل أربعة أعوام لحالة من النشوة وعزز الآمال بتجذر الديمقراطية رغم فشل المحاولات الأخرى بالمنطقة. وبعد عدة أشهر من حكم العسكر، تم التوافق على حكومة مدنية- عسكرية انتقالية تقود إلى انتخابات بعد ثلاثة أعوام، وترأسها الاقتصادي عبد الله حمدوك. إلا أن المجلس السيادي الذي أنشئ للإشراف على عملية التحول، كان مجرد “ورقة تين” نظرا لأن عدد أعضائه العسكريين كان أكبر من المدنيين، بحسب سوزان بيج، السفيرة السابقة في جنوب السودان، والأستاذة حاليا بجامعة ميتشغان.
وتم استبعاد الأصوات المدنية وهي مشكلة ظلت قائمة حتى مفاوضات هذا العام. وبعد انقلاب عام 2021، جمدت الولايات المتحدة 700 مليون دولار من الدعم المباشر للحكومة السودانية، وعلّقت الإعفاء من الدين، في وقت جمد فيه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي 6 مليارات من الدعم المباشر، وخططاً للعفو عن ديون بقيمة 50 مليار دولار. واتخذت مؤسسات أخرى بما فيها بنك التنمية الأفريقي خطوات مماثلة. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس: “نقوم بمراجعة علاقتنا مع حكومة السودان لحين عودة الجيش للحكومة الانتقالية”.
ومع انتشار الشائعات في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، حذر المسؤولون الأمريكيون حميدتي بمواجهة “تداعيات محددة” لو حاول السيطرة على السلطة، وذلك بحسب مسؤول أمريكي بارز سابق. لكن مولي في، أكبر مسؤولة في سياسة أفريقيا بوزارة الخارجية، قررت مواصلة التعامل مع الجنرالين بدلا من الصدام معهما.
ولم يحدد المسؤول طبيعة العقوبات ضد حميدتي، لكنه أشار إلى أن معظمها كان يستهدف ثروته التي أودعها في الإمارات، والتي منحته القدرة على تمويل فصيله العسكري والتحضير للقتال الذي اندلع في الأسابيع الماضية. ولم تفرض الولايات المتحدة عقوبات ضد حميدتي بعد الانقلاب ولا بعد زيارته لموسكو قبل يوم من دخول القوات الروسية أوكرانيا.
وجاء الضغط لمعاقبة الجنرالين من أعضاء في الكونغرس، فقد كتب السناتور كريس كونز، عضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، مقالا مشتركا نشرته مجلة “فورين بوليسي” في شباط/ فبراير 2022، ودعا إدارة بايدن لفرض عقوبات شاملة على قادة الانقلاب وشبكاتهم.
وقال مسؤول بارز في الخارجية قبل زيارة أنطوني بلينكن لشرق أفريقيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، إن الجنرالين عبّرا عن استعداد لمشاركة السلطة مع المدنيين. وقال المسؤول إن حجب الدعم الإنساني ربما لم يكن عمليا، ولهذا قررت الإدارة مناشدة الجنراليْن وتذكيرهما بالإرث الشخصي من بين أمور أخرى.
تخلت الولايات المتحدة عن حمدوك قبل الانقلاب عندما قررت البيروقراطية الأمريكية إبطاء تقديم الدعم الاقتصادي الذي كان يهدف لإظهار منافع الحكم المدني
واعتبر كاميرون هدسون، الذي عمل مسؤول طواقم عدد من المبعوثين الأمريكيين المتعاقبين النهج، بأنه خطأ و”صدّقوا كثيرا ما كان يقوله الجنرالان لهم. وكانا يقولان لنا ما نريده سماعه وأنهما يريدان الحكم المدني”. وأضاف هدسون: “كانت هناك ثقة عالية في وزارة الخارجية بأننا على حافة تحقيق اتفاق مهم”، وكان استعداد واشنطن للمقايضة مع الجنرالين بعد الانقلاب له أثر بشرعنتهما.
وتخلت الولايات المتحدة عن حمدوك قبل الانقلاب عندما قررت البيروقراطية الأمريكية إبطاء تقديم الدعم الاقتصادي الذي كان يهدف لإظهار منافع الحكم المدني، بشكل عرّض حمدوك للخطر. وشعر فيلتمان بالخيانة بعدما أكد له الجنرالان أنهما لن يقوما بانقلاب قبل ساعات من التحرك لاعتقال حمدوك.
ويرى هدسون أن الولايات المتحدة لو فرضت عقوبات عليهما “فلست متأكدا من الفرق الذي ستحدثه” ذلك أن الجنرالين يتعاملان مع الوضع بأنه معركة وجود، و”لو كنت في معركة وجودية، لانزعجت من العقوبات لكنها لن تمنع الجنرالين من ملاحقة بعضهما البعض”.
وتم تحقيق أول خرق بعد الانقلاب في كانون الأول/ ديسمبر، عندما رعت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وكتلة إقليمية، اتفاق نقل السلطة في السودان، من العسكر إلى المدنيين. إلا أن الكثير من القضايا ظلت عالقة، خاصة المدة الزمنية لدمج قوات حميدتي في الجيش، وتركت مهمة رأب الخلافات للرباعية المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات.
ومع تقدم المفاوضات، زادت الفجوة بين الجنرالين وبدأ كل طرف يعزز قواته في الخرطوم. وفي نهاية آذار/ مارس، قدم الدبلوماسيون الأمريكيون والبريطانيون مقترحات لردم الخلافات بينهما، لكن الخطة زادت من حدة التوترات.
وفي 12 نيسان/ أبريل، سيطر حميدتي على قاعدة جوية تبعد 200 ميل عن الخرطوم، في أول مظهر عن الدبلوماسية التي قادت للحرب، وبعد أيام اندلع القتال.
“القدس العربي”