هل بدأ الهجوم الأوكراني المضاد والمعركة الأخيرة لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة القوات الروسية بما فيها شبه جزيرة القرم؟ لا أحد يعرف، فالأوكرانيون يقولون إنهم لم يبدأوا هجوم الربيع الذي دخل الصيف، والروس يعتقدون أنه بدأ ومعهم الأمريكيون والمسؤولون الغربيون الذين يمولون ويدعمون أوكرانيا بالسلاح والعتاد والمواد اللوجيستية.
ولا غرو فقد شهد الأسبوع الماضي مناوشات قامت بها جماعات موالية لأوكرانيا في داخل قرى روسية، حيث استخدمت هذه الوحدات عربات مصفحة أمريكية وبنادق أرسلتها دول أوروبية مثل بلجيكا وجمهورية التشيك، ولم تعترض الولايات المتحدة على استخدام أسلحتها ضد أهداف روسية. مع أن الرئيس جو بايدن أكد في أيار/مايو العام الماضي أن الولايات المتحدة لا تسمح باستخدام أسلحتها ضد أهداف روسية، ولكنها بعد عام على الحرب قدمت لكييف كل أنواع الأسلحة بما فيها نظام هيمارس الصاروخي ووافقت على تدريب الطيارين الأوكرانيين لاستخدام مقاتلات اف-16.
مناوشات أولية أم هجوم؟
وبالمحصلة حصلت أوكرانيا على كل ما تريده من الغرب، دعم عسكري وغطاء سياسي ودبلوماسي كبلد معتدى عليه، وكل ما تريده من القوى العظمى التي اصطفت معها في حربها ضد روسيا بوتين. وتريد أوكرانيا تكرار درس العام الماضي في أيلول/سبتمبر الذي استعادت فيه مناطق واسعة منها خاركيف الإستراتيجية وعززت من مناطقها، مع أنها خسرت قبل الهجوم مدينة باخموت التي احتدم فيها القتال لعدة أشهر وسقطت بيد القوات التابعة لشركة فاغنر للمرتزقة. ويخوض الأوكرانيون الحرب على مستويين، الأول ميداني، حيث يقومون بامتحان الدفاعات الروسية واستغلال مكامن الضعف على أمل حصول خرق فيها والتقدم في مناطق شرق وجنوب أوكرانيا المحتل، ومستوى دعائي، أي محاولة نقل الحرب للأراضي الروسية، كما حدث مع الجماعات الموالية لها من المقاتلين الروس الذين يقولون إنهم يقاتلون نظام بوتين. وكان الهدف من هذه العمليات هو نشر الذعر والخوف بين المواطنين الروس على طول الحدود مع أوكرانيا وإجبار القيادة العسكرية الروسية على سحب جزء من قطعاتها المتمركزة في أوكرانيا، بحيث تنكشف القوات الروسية هناك. ولكن المقامرة لم تنجح على ما يبدو، ولم يعد الإعلام يتحدث عن المقاتلين الروس هؤلاء. ويواجه الأوكرانيون مشاكل عدة تتعلق بدمج المنظومات العسكرية الغربية ضمن قواتهم وكيفية استخدام المدرعات الحديثة وتدريب أفراد الجيش على قيادتها ورفع المعنويات بين الجنود، مع أن الغرب يتحدث عن مشكلة معنويات داخل القوات الروسية النابعة من الخلاف المتصاعد بين القوات النظامية ووزارة الدفاع وزعيم فاغنر يفغيني بريغوجين الذي قاد معركة السيطرة على باخموت. وهي مدينة قد يتخلى عنها الروس ولا تبدو مهمة في تقديراتهم العسكرية. ولا بد من الإشارة إلى أن الروس ومنذ فشل الأهداف الأولى للعملية العسكرية في 25 شباط/فبراير 2022 وعدم احتلال كييف وإسقاط النظام هناك وهم في تراجع مستمر وإعادة تجميع الصفوف وتغيير القيادات العسكرية المسؤولة بشكل شامل عن الساحة في أوكرانيا.
هل بدأ فعلا؟
ونعود للسؤال: هل بدأ الهجوم الأوكراني المضاد؟ هناك إشارات عن احتدام القتال في عدد من المواقع حيث يزعم كل طرف أنه صد الطرف الآخر ويحذر المسؤولون الأمريكيون من التكهن بشأن العمليات لأن الأيام الأولى ليست معيارا لقياس نجاح القوات الأوكرانية. ودخل في الأيام الماضية عامل جديد ومهم وهو تدمير سد نوفا كاخوفكا، الذي فاض الماء منه، بفعل تفجير داخلي أو خارجي حمل الروس الأوكرانيين مسؤوليته، ورأت كييف أن موسكو نفذته لإعاقة تقدم قواتها. ويقع السد على نهر دنيبرو الذي أصبح نقطة الفصل بين الطرفين. وفي الشرق بعيدا عن الفيضان والقرى التي غمرها السد يدور قتال حاد. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» (9/6/2023) عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن القوات الأوكرانية تكبدت خسائر في المراحل الأولى من القتال. وبالمقابل لم يتم الحديث عن خسائر روسية. وحذر المحللون أن خرق الدفاعات الروسية سيكون صعبا وبثمن، فقد أنشأ الروس دفاعات قوية، من الخنادق والملاجئ وحقول الألغام وكتل أسمنتية لعرقلة تقدم الدبابات، وتجعل الأراضي المنبسطة القوات المهاجمة طعما للمدافع الروسية والطيران الجوي. وأظهرت صور ولقطات فيديو لمدونين مؤيدين لروسيا وتحققت منها صحيفة «نيويورك تايمز» ثلاث دبابات المانية الصنع (ليبورد2) وثماني مصفحات برادلي الأمريكية الصنع تخلى عنها الأوكرانيون أو دمرت. في وقت لم تتوقف الإعلانات الأمريكية عن مزيد من الدعم العسكري، فقد أعلنت البنتاغون يوم الجمعة عن جولة جديدة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا تقدر بـ 2.1 مليار دولار وتشمل صواريخ دفاعية وقذائف مدفعية. وقدم الطرفان تقييما إيجابيا لسير العمليات، فمن ناحيته الرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي تحدث عن انجازات «خطوة خطوة» لجيشه، أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد قال في تجمع يوم الجمعة بسوتشي إن الهجوم الأوكراني قد بدأ والدليل هو استخدام «الاحتياط الإستراتيجي» وأن القوات الأوكرانية لم تحدث أي تقدم ولكن هناك «عملية محتملة». ويقول المحللون الأمريكيون أن هدف أوكرانيا استعادة 18 في المئة من أراضيها ليس بالبسيط ولا يمكن الحكم عليه بعد يوم أو يومين من القتال. وقال معهد دراسات الحرب بواشنطن إن أوكرانيا لم تنشر كل الوحدات المدربة والمسلحة حديثا وجهزتها لهذا الهجوم وأنها تقاتل في منطقة زبوروجيا ضد وحدات روسية أقوى من تلك في أماكن أخرى.
يوم الإنزال العظيم
ووسط التوقعات الكبيرة من العملية الأوكرانية، والتهويل الإعلامي والحديث عن قوة الجيش الأوكراني فعملية عسكرية لن تنهي الحرب ولن تحقق النصر لأي من الطرفين وسط غياب أي حديث عن الحلول الدبلوماسية، فربط كييف السلام مع موسكو أو حتى الجلوس إلى طاولة المفاوضات بتحرير كامل التراب الأوكراني بما في ذلك القرم التي ضمها بوتين في 2014 هو دليل على رغبة الغرب بمواصلة القتال وإنهاك الدولة الروسية بالحروب والعقوبات وتوسيع مجال التأثير الغربي في مناطق الإتحاد السوفييتي السابق وباستخدام الناتو. ونسمع قدرا كبيرا من المبالغات في حرب لا يمكن لأحد الانتصار بها ولا تحل إلا بالطرق السلمية، فقد وضع الغرب الكثير من المسؤولية على الأوكرانيين ووصفهم بمقاتلي الحرية وأنهم المدافعون عن العالم الحر، وبالغ في تقدير قدرتهم القتالية بناء على ما أنجزوه في الحملة الماضية. لا شك في أن أبناء الوطن المحتل أو الذي يتعرض لهجوم هم أكثر دافعية للقتال من قوات جيش غاز ارتكب الكثير من الأخطاء. وقال رئيس هيئة أركان سلاح الجو الأمريكي الجنرال جيمس ماكونفيل في لقاء جمعه في فرنسا مع وزيري الدفاع البريطاني والفرنسي «نجد أنفسنا في وضع مشابه جدا مع الهجوم غير المبرر على أوكرانيا، الحرية ليست بلا ثمن». وفي مقال رأي كتب المعلق المعروف ديفيد إغناطيوس بـ «واشنطن بوست» (6/6/2023) أن «فجر يوم النصر دي- دي يقترب» ففي ظل الاحتفال بهذا اليوم الأسبوع الماضي، ذكر إغناطيوس أن الهجوم الأوكراني قد يغير من مسار الحرب كما حدث في نورماندي الذي غير مسار الحرب العالمية الثانية. وقال إن الحملات العسكرية من النادر أن تكون انتصارا كاملا أو هزيمة إلا أن الحملة الأوكرانية تقترب من تحقيق الهدف. ولو «استطاعت أوكرانيا دفع الجيش الروسي المهتز للوراء فأمامها فرصة لإجبار موسكو على المقايضة مقابل غزوها الفاشل. ولو عجزت أوكرانيا فستكون ضربة لشعبها القلق وتؤثر على الدعم من أعضاء الناتو غير المرتاحين». وقال إن الإدارة الأمريكية لبايدن تعتقد أن حملة الربيع التي طال انتظارها بدأت يوم الإثنين بمحاولة قطع الجسر الأرضي الذي يربط روسيا بالقرم. وأضاف أن النتائج الأولى كانت مشجعة للأمريكيين مع أن تفجير سد نوفا كاخوفكا أوقف التقدم وسيؤثر تدميره على الطرفين الأوكراني والروسي، في وقت يخشى خبراء السلاح النووي من نفاد مياه التبريد في مفاعل زابورجيا، ولكن هذا لن يحدث إلا بعد عدة أسابيع. ويقول إغناطيوس إن مقامرة أوكرانيا على حملة الصيف دليل عن ثقة زيلينسكي لكنه بحاجة لأن يظهر نتائج، مع أن مقامرات كهذه عادة ما تنتهي بنتائج غير واضحة.
ستعرفون
وهنا نعود للحديث عن توقعات الغرب من أوكرانيا وما تستطيع الأخيرة إنجازه. ففي الوقت الذي رفض فيه المسؤولون في أوكرانيا التأكيد إن كان هجوم الصيف قد بدأ إلا أن الغرب يبالغ في توقعاته، فهو متعجل لإنهاء المعركة وهزيمة القوات الروسية، خوفا من التداعيات المحلية لو طالت الحرب. ولاحظ معلق في صحيفة «الغارديان»(9/6/2023) بأن انهيار سد نوفا كاخوفكا جاء وسط مخاوف أمريكية من عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي يحضر مع اليمين الأمريكي المحافظ لوقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، لو هزم بايدن العام المقبل. وحتى في النظرة الواقعية للأمور، فالحديث عن نصر حاسم لأي طرف نوع من الضرب بالرمل.
متغيرات
وتقول صحيفة «واشنطن بوست» (8/6/2023) إن الأوكرانيين يواجهون اليوم مشهدا مختلفا عما واجهوه في خيرسون العام الماضي. هناك العديد من الأسباب التي تجعل من غير المحتمل أن تكون جهود هذا العام تكرارا سهلا لهجمات 2022 المضادة لأوكرانيا ومهما كانت نتيجة الحملة. فمن ناحية تمت إعادة رسم خريطة المعركة. ففي العام الماضي، تمكنت أوكرانيا من استعادة مساحات كبيرة من الأراضي في منطقة خيرسون، ولكن فقط على الضفة الغربية لنهر دنيبر. هذا النهر العظيم المترامي الأطراف يعمل كخط فاصل بين القوات الأوكرانية والقوات الروسية الغازية التي دمرت الجسور المقامة عليه التي يمكن استخدامها لعبوره. ومن الممكن عبور نهر دنيبر، حيث قامت مجموعات صغيرة من الجنود الأوكرانيين بذلك بالفعل، لكن هذا يمثل مشكلة تكتيكية كبيرة. وسيزيد تدمير السد من المشاكل، فقد أعاد الفيضان بالفعل تشكيل ساحة المعركة، وقطع أحد الطرق القليلة المتبقية عبر النهر. وفي الوقت نفسه، في منطقة زابوروجيا المجاورة، فإن المساحات المسطحة نسبيا للأراضي الزراعية في الغالب تجعلها هدفا أكثر نضجا. يتوقع الكثيرون حدوث هجوم مضاد في هذا الاتجاه لأنه قد يقطع «الجسر البري» المؤدي إلى القرم. لكن روسيا تعرف ذلك أيضا وقد أمضت أكثر من ستة أشهر في تحصين المنطقة بشدة بالخنادق، الألغام والعوائق المضادة للدبابات. سيستغرق المرور عبر هذه الخطوط وقتا وجهدا ومعدات – ما قد يسمح للاحتياطيات الروسية بإعادة تجميع صفوفها والقيام بضربات مضادة قبل أن تتمكن القوات الأوكرانية من اختراقها. أما العامل الثاني في الحملة الحالية، فهي الأسلحة الجديدة التي قدمتها أمريكا وبوفرة للقوات الأوكرانية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بما في ذلك عربات المشاة برادلي، ودبابات القتال أم1 إي2 أبرامز وبرادلي وباتريوت للدفاع الجوي. فيما ملأ حلفاء آخرون الفجوة، حيث قدم الحلفاء الأوروبيون دبابات ليوبارد 2 القتالية بينما زودت بريطانيا صواريخ ستورم شادو طويلة المدى. ومنحت الولايات المتحدة أيضا موافقتها مؤخرا على توريد طائرات مقاتلة من طراز F-16 إلى أوكرانيا، على الرغم من أنه مثل دبابات أبرامز، من المحتمل أن يستغرق الأمر عدة أشهر قبل استخدامها. وسيشكل العديد من هذه الأسلحة تغييرا بالنسبة لأوكرانيا، التي كانت تعتمد في بداية الصراع على آلات قديمة إلى حد كبير من تصميم الحقبة السوفييتية. إلى جانب هذا فالوحدات التي تم إنشاؤها حديثا – مثل اللواء 47 الآلي المنفصل، ليست مسلحة بأسلحة غربية فحسب، بل مدربة أيضا على التكتيكات العسكرية الغربية. وهناك الروح المعنوية للطرفين، ويمكن أن تكون مشكلة، ولكنها تبدو حادة في الجيش الروسي وكانت واحدة من سبب انسحاباته المتسارعة التي شهدها العام الماضي. لم يبدأ الهجوم الروسي الشتوي المخطط له في وقت سابق من هذا العام، في حين أن المكاسب التي تحققت هي في أفضل الأحوال انتصارات باهظة الثمن، كما في باخموت. وبالمقارنة، فإن الانقسامات بالروح المعنوية الأوكرانية محدودة. بشكل عام، يحتفظ الجنود والمسؤولون الأوكرانيون بنبرة وطنية متسقة بشكل ملحوظ، حتى بعد الانتكاسة التي حدثت في باخموت، مع تقارير قليلة عن حدوث خلافات حول الاستراتيجية العسكرية أو قضايا أخرى مع قيادة الرئيس زيلينسكي. إلا أن الأوكرانيين يشعرون بضغط المهمة، فلو لم تستطع القوات الأوكرانية الحفاظ على الزخم الذي شوهد في الهجمات المضادة السابقة بجميع المعدات العسكرية الجديدة والتدريب الذي تلقوه مؤخرا، فقد يبدأ بعض الحلفاء الغربيين في الضغط من أجل المفاوضات مع استنزاف معنوياتهم. إنه سبب آخر للتخلي عن أوكرانيا. ومشكلة الغرب أنه ركز كل جهوده على الدعم العسكري أملا في دحر روسيا وقلع عين بوتين، بدون أن تكون لديه خطة خروج أو نهاية لحرب لن يكون فيها منتصر. والغرب، وتحديدا أمريكا ليس معنيا بإنهاء الحرب لأنه وخلافا لحروبه في العراق وأفغانستان فجنوده لا يموتون في أوكرانيا. لكن المناخ الذي خلقته واشنطن وحلفاؤها في الناتو هي أنها معنية فقط بإشعال الحرب. وقد تضطر عاجلا أم آجلا لتطوير رؤية لنهاية اللعبة، خاصة أنها متورطة بالحرب وقد تجر إليها لو فشلت القوات الأوكرانية. ويقول صمويل شاراب في «فورين أفيرز» (5/6/2023) إن الحرب المستمرة منذ 15شهرا لم تؤد إلى نتيجة حاسمة، وحتى لو حقق الأوكرانيون انتصارات في الحملة الأخيرة، فستظل روسيا تمثل تهديدا دائما على أوكرانيا وستظل الحرب الطاحنة التي سيدفع ثمنها سكان البلدين. ولن يتغير منظور الحرب اليوم أو بعد سنوات. ولدى الغرب خيار البحث عن مخرج وتوجيه دفة الحرب نحو المفاوضات أو الانتظار لسنوات أخرى ولكن بنفس النتيجة وبثمن فادح.
“القدس العربي”