على الرغم من أن فلسطين هي قضية العرب الأولى – كما يزعمون- وفيها قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين، ويتعرض أهلها منذ قرن من الزمان لكل أنواع الإقصاء والعدوان والتهجير والتدمير والقتل، إلا أن ذلك لم ينعكس على الرواية العربية إلا قليلا، باستثناء الروايات التي كتبها أردنيون أو سوريون أو لبنانيون بحكم الوجود الفلسطيني الكبير في هذه الدول، وامتزاجهم بأهلها، بالإضافة إلى معاناة هذه الدول من العدو المغتصب ذاته، الذي ما زال يتهددها، ويمارس عدوانه عليها بشكل مباشر وغير مباشر.
ويلاحظ أن لفلسطين حظا وافرا من الشعر العربي، خاصة المتعلق بالأحداث المهمة والمؤثرة، مثل النكبة والنكسة والانتفاضة، وأخيرا طوفان الأقصى؛ فالشعر حالة عاطفية شعورية تتدفق من ذات الشاعر، وتتفاعل مع الحدث آنياً، وبعد ذلك ترفع الأقلام وتجف الصحف. بينما الرواية عمل عقلاني مخطط له، ويتطلب جهودا ووعيا ووقتا طويلا، ولا مجال للعاطفة والمشاعر فيها إلا بقدر محدود مدروس.
بالطبع، لا يُمكن التعميم، وإطلاق الأحكام بشكل مطلق، فثمة روايات عربية محدودة – عدا الأردن وسوريا ولبنان- كان لفلسطين فيها حضور رئيس أو بارز، ومن هذه الروايات: «سوناتا لأشباح القدس» للجزائري واسيني الأعرج، و«أمريكانلي» للمصري صنع الله إبراهيم، و«رفقة السلاح والقمر» للمغربي مبارك ربيع، و«البحريات» للسعودية أميمة خميس، و«الحب في المنفى» للمصري بهاء طاهر، و«على عهدة حنظلة» و«ملف الحادثة 67، و«الشياح» و«في حضرة العنقاء والخل الوفي» للكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، و«نساء في الجحيم» للجزائرية عائشة بنور، و«المزامير» للمصري فتحي سلامة، وغيرها. وهناك عشرات الروايات في المقابل، جاءت فلسطين فيها كخبر عاجل أو عابر، ثم ينطفئ دون تأثير لاحق، أي أنها حدث من عشرات أو مئات الأحداث التي تضمنتها الرواية، وغالبا يكون حدثا هامشيا ليس له أي امتداد في الرواية.
حضور متواضع
يقول الأديب العُماني محمد اليحيائي: «إن التجربة الروائية العربية التي قاربت القضية الفلسطينية، ما زالت قاصرة ومتأخرة، ولم تواكب هذه القضية الكبرى» ويشاطره الرأي الروائي المصري مكاوي سعيد بقوله: «لا توجد لدينا رواية تعبر عن حدث كوني كالقضية الفلسطينية، بصورة تناسب تأثيرات هذا الحدث». والسؤال: لماذا هذا الحضور المتواضع لفلسطين في الرواية العربيةن الذي لا يرقى إلى أهمية فلسطين ومعاناة أهلها، وما يتعرضون له من بطش ووحشية، ولا ينسجم مع مزاعم «أمة واحدة ذات رسالة خالدة» و«بلاد العرب أوطاني» و«القومية العربية» بالإضافة إلى ما أسلفت أعلاه أنها قضية العرب المركزية الأولى، وفيها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟
بداية، لا بد من التأكيد، أن معظم الدول العربية غائبة عن روايات الدول الأخرى إلا في حالات معدودة، ما عدا مصر ولبنان، فلهما حضور أكثر من غيرهما؛ لأسباب عديدة، منها أنهما محط أنظار المثقفين العرب، وفيهما حركة نشر نشيطة، بالإضافة إلى سهولة السفر إليهما، والانفتاح النسبي الذي تتمتعان به.
قضية وجدانية
وعودة إلى أسباب تواضع حضور فلسطين في الرواية العربية، فهذا يتطلب دراسات أكاديمية متخصصة، وربما مؤتمرات وندوات، لكن، يمكن الإشارة إلى بعض الأسباب التي يُمكن أن تفسر هذا الحضور الحيي الأقرب للغياب، ومن ذلك، أن فلسطين قضية عاطفية في وجدان العرب، وليس لها جذور حقيقية في العقل العربي، وبالتالي فإنها غير فاعلة أو مؤثرة إلا بشكل لحظي مؤقت، كأي قضية إنسانية أخرى تحدث في أي بقعة من الأرض. قد يكون هذا الحكم قاسيا، لكن واقع الحال يؤكد ذلك، وإلا فلكل ادعاء دليل، فأين دليل ما يدعون إن كانوا صادقين؟
كما أن سياسة الدول العربية ومناهجها وإعلامها وتوجيهاتها، لا تعطي لفلسطين أي مساحة حقيقية فاعلة ومؤثرة في وجدان وعقل المواطن العربي فيها، والمواطن العربي في معظم الدول العربية لا يعرف عن فلسطين إلا معلومات عامة كغيرها من الدول، ويستثنى من ذلك المواطن الذي يسعى ذاتيا للتعرف على فلسطين، وقراءة تاريخها وواقعها وما تتعرض له من ممارسات وحشية، وما تكبده أهلها من هجرات ومعاناة وتشريد وقتل وأسر وحرمان.
إن الواقع العربي للأسف، واقع متشرذم، انقاد للتقسيم الاستعماري القطري، والحواجز الحدودية، وكل يغني لقطره ويتعصب له، وينسى كل أواصر القربى والجوار والعوامل المشتركة؛ وضع لنا الاستعمار حدودا، فقدسناها واعتبرنا كل ما بعدها أغيارا لنا، لا حق لهم عندنا، ولا يختلفون في المعاملة عن الغربيين والشرقيين وحتى الأعداء المعلنين، بل قد يكون الغربي له الأولوية وحسن المعاملة والترحيب وسهولة الدخول، بينما العربي المجاور يُحرم عليه ذلك إلا بشق الأنفس.
المبدع العربي مبرمج
الطامة الكبرى، أن المبدع العربي، أيا كانت دولته، نتاج نظامه السياسي القطري (المستقل) ولا يعدو أن يكون فردا من قطيع، استسلم للتجزئة والحدود الوهمية، وانشغل بدائرته الضيقة، ويدافع عن كيانه الجغرافي المحدود في وجه الأغيار خارج هذا الكيان، ويتمسك بالجزء الهش، ويخاصم ما عداه، أو على الأقل، لا يراه مساويا له في الحقوق والواجبات؛ ولذا استمرأنا تجزئة وتقسيم الأدب العربي، فنفتخر بالرواية الأردنية، والرواية المصرية، والرواية الجزائرية، والرواية الكويتية، والرواية الموريتانية، وهي كلها روايات متشابهة لا تختلف إلا في تفصيلات هامشية، ولو كنا نؤمن بأننا أبناء أمة واحدة، لافتخرنا بالرواية العربية الجامعة، وليس الرواية القُطْرية والتقسيمات الاستعمارية. المبدع العربي مبرمج مهما ادعى خلاف ذلك، معني بمشكلات بلده الضيقة، وقضاياه، وتاريخه، أو شطحات الخيال، ولذا، فهو غير مشغول على الإطلاق بقضايا أمته ومشكلاتها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي ينبغي أن تكون لها أولوية خاصة في وجدان واهتمام وإبداع كل مثقف عربي، وهو أقل القليل لنصرة فلسطين ودعم أهلها وصمودهم ومقاومتهم الباسلة، وإيصال صوتهم، ونقل معاناتهم، وفضح عدوهم. وليس شرطا أن تكون فلسطينيا لتكتب عن فلسطين، فالقراءة عن فلسطين، ومتابعة ما يتعرض له شعبها، ومعايشة الجاليات الفلسطينية في كل أصقاع الدنيا والاستماع إليها، كاف للحصول على ذخيرة وافرة للكتابة عن فلسطين، وكل فلسطيني رواية وحده، وكل ذرة تراب في فلسطين رواية، وكل قرية أو مدينة أو مخيم ملحمة، فلا يتعلل أحد بقلة بضاعته وعدم درايته، بل ليعترف بعدم اهتمامه وضيق أفقه ومحدودية نظرته وإقليميته.
وفي السياق ذاته، تجدر الإشارة إلى بعض الجهود والدراسات حول فلسطين في الرواية العربية، ومنها: كتاب «فلسطين في الرواية العربية.. ما بعد النكبة حتى 1970» للفلسطيني صالح أبو أصبع 1975. وكتاب «الفلسطيني في الرواية العربية» للفلسطيني عادل الأسطة 2022، ودراسة للعُمانية منى بنت حبراس السليمية بعنوان «فلسطين في الرواية العربية» 2021.
وبعد؛ فإن قضية فلسطين، قضية كل شريف ومنصف، سواء أكان عربيا أو مسلما أو إنسانا أيا كان موطنه، ومن أي زاوية نظرت إليها، فهي قضية تستحق أن تكون هما وشغلا واستحقاقا إبداعيا؛ فهي قضية عربية لمن يدعي العروبة، بل أهم قضية وأولاها بالكتابة، وإن شئت فهي قضية إسلامية، فالقدس مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها عرج إلى السماء، وهي من المقدسات التي لا شك فيها؛ قبلة وحرما، وإن شئت، فهي قضية إنسانية لشعب تشرد وهجر وحوصر وحرم، وتعرض لأبشع الممارسات، واقتلع من أرضه، وقتل منه من قتل، وأسر من أسر، دون أي ذنب أو جريرة، اللهم أن قوما ساقهم الطمع للاستيلاء على وطنهم وأرضهم، ظلما وعدوانا، بدعم من قوى الشر والظلام والعدوان المتأصل فيها على مر التاريخ. وأنت أيها المبدع العربي، اعتبر فلسطين قضية إنسانية على الأقل، تستحق منك النظر والقليل من الاهتمام، لتثبت إنك إنسان لك مشاعر وأحاسيس وقلب يتدفق منه الدم. والأمل أن يحرك «طوفان الأقصى» الساكن، ويحفز الهمم، ويعيد توجيه البوصلة إلى مسارها الصحيح، ويرفع الغشاوة أمام المبدعين العرب، وعندها يدركون أن الخطر الصهيوني النازي يتهدد الجميع دون استثناء، وأعيذهم أن يصرخوا يومًا «أكلنا يوم أكل الثور الأبيض» ولات حين مندم.
كاتب أردني
- القدس العربي


























