تتكرر في مواسم الانتخابات، على أشكالها في العالم، ظواهر الصراع بين قوى التقليد والتجديد، وتسعى القوى الحاكمة لإدامة حكمها وإقصاء خصومها السياسيين، فيما تجهد القوى المعارضة لإزاحتها؛ وتتشابك، في ديناميات ذلك، عناصر الضغط الخارجيّ والتوتّرات الداخلية، ويرتفع مدّ الانحيازات القومية والدينية والطائفية والجهوية، ويتنافس المرشّحون على رفع سقف الشعبوية، ويصعّدون وعودهم بالعدالة والتنمية والرخاء والمساواة والازدهار الاقتصادي والثروة، أو يلجؤون لتعميق الاختلافات والاستقطاب والنزعات عبر هجاء الخصوم المحليين، أو توجيه السهام لفقراء المهاجرين واللاجئين واختراع أعداء وهميين.
لا تصعب رؤية بعض هذه العناصر «العالمية» في الانتخابات العراقية التي جرت مؤخرا، ولكن بعد الأخذ بالاعتبار خصوصية الانتخابات البرلمانية التي حملت نسختها الأولى (في 15 كانون أول/ ديسمبر 2005) آثار الاجتياح الأمريكي للبلاد الذي أسقط حكم صدام حسين في 2003، وتشكّل النفوذ الإيراني، وهما عنصران ما زالا فاعلين ويتنازعان القرار على إدارة البلاد.
تحضر، إضافة إلى هذين العاملين المعلومين، عناصر أخرى يحتاج استكشافها حفرا أعمق في الآليات التي تشكّلت فيها دولة ما بعد غزو 2003، وفي تفاصيل مثل الغياب المتعمّد للتيّار الصدري، الذي أحرز في الانتخابات السابقة، عام 2021، 73 مقعدا، وكانت النسبة الأكبر من المقاعد لكنه لم يتمكّن من تشكيل الحكومة عندما تعاضدت القوى الداخلية والخارجية على منعه، وهو ما دفع كتلته للخروج من البرلمان ليقوم التحالف الشيعيّ الذي احتلّ مقاعده بتشكيل الحكومة، كما هو متعارف في النظام السياسيّ العراقي الحالي.
رغم مقاطعة تيار الصدر الانتخابات فقد تمكّنت القوى الشيعية من زيادة حصتها من مقاعد البرلمان والتي بلغت 196 مقعدا، في عدد المقاعد تقاسمت أصوات ناخبي الشيعة ثلاث قوى رئيسية؛ التحالف الذي شكّله رئيس الوزراء الحالي محمد شيّاع السوداني (تحت اسم «ائتلاف الإعمار والتنمية») الذي حصل على قرابة 50 مقعدا، وائتلاف رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، «ائتلاف دولة القانون»، وحصل على 33 مقعدا، فيما تضم الكتلة الشيعية الثالثة قوى أخرى تضم الوجوه السياسية للميليشيات المسلحة مثل «عصائب الحق»، قيس الخزعلي، و«منظمة بدر»، هادي العامري، و«كتائب حزب الله».
رغم مقاطعة التيار الصدري، سجّلت الانتخابات مشاركة أكبر من سابقتها بنسبة 56,11 بالمئة، وحسب المحللين، فقد نتج ذلك عن لجوء القوى المشاركة، على الجهتين الشيعية والسنية، لتحشيد طائفي كبير، كما استخدم المرشّحون جميعهم ورقة العشائر، وارتفع منسوب المال السياسي إلى ذروة كبيرة قدّرها البعض بحدود 6 مليارات دولار.
على عكس ما هو متوقع أيضا، فإن الانتخابات الأخيرة لم تؤد إلى عكس اتجاه النفوذ الإيراني والميليشيات المؤتمرة بإمرتها، نتيجة اشتغال العامل الطائفيّ وكردّ فعل من زبائن هذه الميليشيات الذين التفوا حول زعاماتها، وهو ما أدى، على سبيل المثال، إلى حصول تحالف «صادقون» (عصائب الحق) على 28 مقعدا.
أثار هجوم قام به محلل عسكري وأمني أمريكي يدعى مايكل نايتس على رئيس الوزراء الحالي، محمد شياع السوداني، أمس الخميس، واتهامه بدعم ميليشيات «الحشد الشعبي» خلال ولايته، ومطالبته المبعوث الأمريكي للعراق مارك سافايا ألا يغفر له هذا، تكهّنات باحتمال تخلّي الولايات المتحدة عنه كمرشّح، والحال إن النتائج الأخيرة، رغم تفوّقه على خصمه الرئيسي، المالكي، لا تعني بالضرورة أن حظوظه أعلى من غيره، والحقيقة أن المالكي، مستعينا بشد العصب الشيعيّ، أصبح في وضع أقوى من غيره، ومن الواضح أن المفاوضات بدأت بين واشنطن، من جهة، والقوى الشيعية، بما فيها المحسوبة على إيران، لاختيار رئيس الوزراء المقبل.
إضافة إلى المذكور آنفا تجدر الملاحظة بأن التيارات المدنية كانت الخاسر الأكبر في الانتخابات الحالية، ولا يظهر أن قائمتي «البديل» و«التحالف المدني الديمقراطي»، اللتين ترشّح تحت مظلتهما معظم الشخصيات والقوى المدنية (بما فيها «الحزب الشيوعي العراقي») قد حصلتا على أي مقعد نيابي، وهو ما يعني أن النظام العراقي القديم أعاد تمكين نفسه عبر العشائرية والطائفية والزبائنية.
- القدس العربي


























