لم يكن متوقعاً أن تقوم سوريا بالذهاب إلى التطبيع مع إسرائيل لتلبي طلب الرئيس ترامب، أو لمجرد أن دولاً مهمة في الإقليم يمكن أن تفعل ذلك، في ظل المناخ السياسي والأمني الجديد في الشرق الأوسط. لم يبد ذلك الخيار وارداً في الحسابات السورية، حتى مع ما عرفت به القيادة في دمشق من براغماتية عالية وإمكانية القيام بكل ما يلزم لتجنيب سوريا الانزلاق إلى أي نمط من الصراع الخارجي، لصالح التركيز على وحدة البلاد وسلامة أراضيها، والخروج من الضيق الاقتصادي الذي تشهده.
وقضية التطبيع هذه وردت أكثر من مرة في تصريحات ودعوات أميركية، لكنها كانت تعبر عن “تمنيات” أكثر من كونها “شروطاً” لبناء علاقة ذات مصداقية مع سوريا. وهو ما بدا واضحاً في زيارة الرئيس أحمد الشرع الأخيرة إلى واشنطن، حيث لم يتحدث الأميركيون بشكل مباشر عن التطبيع مع إسرائيل بوصفه “شرطاً” من أي نوع، سواء لإلغاء قانون قيصر، أو لدمج سوريا في التحالف الدولي المناهض لداعش أو لاستيعاب سوريا الجديدة في النظام الدولي بشكل عام.
بدا هذا النمط من الواقعية في التعامل الأميركي مع موضوع شائك ومعقد مثل قضية التطبيع، أمراً مناسباً يمنح دمشق فرصة أكبر لتطوير آليات التفاوض المستقبلي حول علاقاتها مع إسرائيل، من دون ضغوط سياسية واقتصادية جوهرية، ومن غير اللجوء إلى خيارات مكلفة، وقد تكون نتائجها أكثر خطورة من المشكلات التي كانت تريد تجاوزها.
علاقة سوريا مع إسرائيل تتجاوز قضية الجولان المحتل أو أراضي ما بعد هدنة 1974 التي اعتدت عليها القوات الإسرائيلية بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، فجزء أساسي من هذه العلاقة ما زال يتعلق بنظرة السوريين للصراع العربي الإسرائيلي، وهي نظرة لا تتعلق بطبيعة نظام الأسد أو رؤيته، بل بالريادة القومية للشعب السوري منذ طلائع الدولة الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، وهي ريادة لعب عليها نظام الأسد واستغلها، لكنه لم يؤسسها. وهو بالتأكيد أضر بها وتسبب بثلمها، حينما بنى استراتيجيته الإقليمية على أساس كل ما هو مضاد للروح القومية، ومارس ذلك عملياً في لبنان ومع العراق، وبتمكين إيران ضد العرب ومساعدتها على إيذاء كل التيارات القومية واليسارية، من خلال ذراعها اللبناني المتمثل بحزب الله.
وقد كان أخطر ما فعله نظام الأسد، أنه سمح لإيران بتحويل الطابع القومي للصراع العربي الإسرائيلي، إلى صراع طائفي داخل المنظومة العربية ذاتها، وإدعاء ايران وأذرعها التفرد بـ”حق” المقاومة، وإنشاء محور يحمل هذا الاسم، منح إيران شرعية النفوذ في عدة عواصم عربية، والبطش بأبناء الشعب السوري ومثله اللبناني والعراقي واليمني تحت شعار “المقاومة”، الأمر الذي خلق فجوة كانت مقصودة بين الخلفيات القومية للشعوب العربية، التي اعتبرت إسرائيل العدو التاريخي للأمة، وبين حاضرها المستلب الذي أعاد تعريف العدو لتصبح إيران وربما أطراف أخرى مثل النظم الاستبدادية ذاتها هي العدو بدلاً عن إسرائيل. سرى ذلك بين السوريين مثل سواهم، لكنه كان مدفوعاً بعناصر ضاغطة، لن يقدر لها أن تتواصل مع زوال السبب المباشر، لا سيما بعد ما فعلته إسرائيل من اعتداءات ضد سوريا منذ سقوط النظام، وبعد ما فعلته أيضاً لتقسيم سوريا ودعم التمرد في السويداء.
هذا الواقع الجديد، مقدمة لإعادة سوريا نحو وعيها المؤسس، وهو أمر يجعل من التطبيع مع إسرائيل أمراً معقداً، ليس فقط لأن هناك قضايا جوهرية عالقة، من أبرزها مصير الجولان المحتل، بل لأن الشعب السوري ليس مستعداً أصلاً للذهاب إلى هذا المستوى من التغيير الاستراتيجي، من دون تغيير موازٍ يتحقق في القضية الأساسية التي كان السوريون من بين أكثر الشعوب إسهاماً فيها، وهي قضية فلسطين.
من هنا، فالمتوقع أن لا يتجاوز الأمر اتفاقية أمنية تكون بديلاً عن اتفاقية الهدنة لعام 1974 بعدما خرقتها إسرائيل، وهي أيضاً اتفاقية لن تكون بأي ثمن، كما أشار الرئيس الشرع، إلى عدم التنازل عن دور الدولة السورية وحرية تحركها الأمني في مناطق الجنوب من دون قيود.
عبرت القيادة السورية عن واقعية عالية في التعامل مع التحديات الخارجية والداخلية، ولكن يتوجب الانتباه أيضاً أن الدول الغربية التي كانت متشككة بمستقبل سوريا، بدأت هي أيضاً بممارسة الواقعية نفسها، بالتخلي النسبي عن الشروط والقيود التي كانت وضعتها للتطبيع مع دمشق والاعتراف بشرعية الحكم بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر. وهي نتيجة مهمة قبل انقضاء العام الأول لنجاح الثورة، ولن تلبث أن تتحول سريعاً إلى نمط من تعاون أمني وعسكري وسياسي، تكون فيه سوريا حجر زاوية في الاستراتيجية الدولية في المنطقة، حتى تصبح خياراته الجوهرية مثل التطبيع مرهونة بمصالحه وليس بالضغوط والشروط.



























