الصيد بالديناميت هدّد السواحل السورية لسنوات طويلة، بل ساهم في انخفاض أعداد الأسماك والكائنات البحرية كــ”اللقز البحري”. يخبرنا عاطف الفحل ابن “الريّس” (صيّاد وبحّار من أرواد)، أن الجنود الروس “فرضوا أتاوات تصل إلى مئة دولار للسماح لسكّان الجزيرة بالصيد”، ويضيف: “أحياناً كانو يسرقون ما نصطاده”.
في ربيع عام 2015، بدأت روسيا تدخّلها العسكري المباشر في سوريا تحت عنوان عريض هو “مكافحة الإرهاب”، بهدف “توليد حالة من الرعب والإرهاب في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، وإنهاء جميع أشكال المعارضة ودفعها إلى التسليم والاستسلام”. عشر سنوات مرت على هذا التاريخ، نراها اليوم عبر تبادل الوفود العسكرية بين موسكو ودمشق، وزيارة الشرع نفسه قبلها إلى العاصمة الروسية للقاء فلاديمير بوتين.
لكنّ روسيا لم تكتفِ بالقواعد العسكريّة للجنود والمدرّعات، ولم يكتفِ الطيران الروسي بفرض سيادته على السماء، بل فتح الطريق أمام “احتلال ناعم” تسلّل ببطء إلى سوريا، تتّضح معالمه في مدينة اللاذقية وطرطوس، التي تحوي قاعدة بحرية روسية (أو نقطة دعم فنّي)، وجزيرة أرواد، الجزيرة الوحيدة المأهولة في سوريا التي تبعد 3 كيلومترات عن طرطوس.
“رعاية أسدية” للحضور الروسي
بعيداً عن أخبار قصص الحبّ الروسية- السورية في قاعدة حميميم، بدأت وزارة التربية السورية منذ العام 2014، تدريس اللغة الروسية كلغة ثانية إلى جانب الفرنسية والإنكليزية في المدارس السورية بشكل عامّ، وفي المناطق الساحلية تحديداً.
إذ أفاد موجّه اللغة الروسية في محافظة طرطوس كامل الحاج لـ”درج”، بأن “طرطوس كانت من أوائل المحافظات التي تبنّت تعليم اللغة الروسية ولاقت رواجاً لافتاً فيها”.
كما أشارت أرقام وزارة تربية نظام الأسد في عام 2021، إلى أن نحو 31 ألف طالب، في 217 مدرسة موزّعة على 12 محافظة، يدرسون اليوم اللغة الروسية، بإشراف 190 معلّماً، معظمهم تلقّى تدريباً أو بعثة في روسيا نفسها.
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، أسئلة كثيرة حول التعليم في سوريا ما زالت تثير الجدل، آخرها مثلاً وجود 8 آلاف طالب وطالبة يدرسون اللغة الروسية في محافظة طرطوس حسب كامل الحاج، الذي يخبر “درج” أنه منذ سقوط بشّار الأسد، ليس لديهم “أيّ تعليمات عن مصير اللغة الروسية إلا قرار تقليص عدد الساعات، إذ كان طلاب مرحلة البكالوريا القسم العلمي يتلقّون 4 ساعات أسبوعياً، وبعد تعليمات الوزارة، تقلّصت إلى ساعتين فقط، أما القسم الأدبي، فقلّصت الساعات من 5 إلى 2 أيضاً، ناهيك بقلّة عدد المدرّسين، إذ “هرب” 12 مدرّساً روسياً بعد سقوط النظام”.
لم يكن التغلغل اللغوي معزولاً عن سياق سياسي أوسع، إذ وقّعت روسيا في عام 2017 اتّفاقاً يسمح لها بتوسيع قاعدتها في ميناء طرطوس لمدّة 49 عاماً قابلة للتمديد 25 عاماً إضافياً، وكانت تدرك أن النفوذ العسكري الذي حقّق لها مكاسب جيوسياسية لا يكفي وحده.
“روسنة” سوريا عبر التعليم تكشفه الأرقام والأخبار المتنوّعة، ففي عام 2014 افتُتح قسم الأدب الروسي في جامعة دمشق، وفي عام 2019 افتُتحت مراكز لتعليم اللغة الروسية، وبعد مرور 10 أعوام على تعليم اللغة الروسية في سوريا أي في عام 2014، طُرح كتاب جديد، ووصل عدد الطلاب في المدارس الرسمية، إلى نحو 40 ألف طالب. واللافت أن المنهج الجديد سيدرّس بشكل تجريبي في محافظات دمشق وحمص وطرطوس واللاذقية والسويداء ودرعا، أي في “سوريا المفيدة!”.


الإقبال على اللغة الروسية تكشفه تفاصيل يحكيها الطلاب في الصفوف، فمع الوقت، تحوّلت هذه “الاختيارية” بين اللغات، إلى خيار وحيد تقريباً. تقول سيرين .م (اسم مستعار)، فتاة عشرينية من سكّان طرطوس: “اخترت اللغة الروسية لأن كلّ زملائي اختاروها، وبقيت وحيدة في صفوف اللغة الفرنسية، فلم يبقَ لي خيار آخر”، في حين ترى هلا.ر (اسم مستعار) التي تعمل معلّمة في مدرسة محمّد علي مصطفى، أن هناك إقبالاً كبيراً على اللغة الروسية كونها “أسهل وتسمح للطلاب بالحصول على درجات أعلى من اللغة الفرنسية”.
تعلّم اللغة الروسية في سوريا، رافقته وعود بتأمين فرص عمل لمُتقنيها، كما كان الحال بالنسبة إلى المعلّمة هلا.ن، التي تُدرّس اللغة الروسية منذ أربع سنوات، وحصلت على شهادتها من جامعة دمشق في عام 2019، وتشير إلى أن هذه اللغة تسمح لها بالحصول على فرصة عمل، وترى أنه بالرغم من عدم تلقّيها أيّ تعليمات حكومية في ما يتعلّق بمصير اللغة الروسية “إلا أن اللغة ستستمرّ بسبب العلاقات الروسية السورية التي تجدّدت، خصوصاً بعد زيارة الشرع موسكو في 15 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي”.
مستقبل تعليم اللغة الروسية في سوريا بعد سقوط الأسد ما زال غامضاً، لكنّه مثلاً أُلغي في جزيرة أرواد وفي مناطق أخرى، ولكن ليس في كلّ المدارس، لم نستطع الحصول على إجابة رسمية من وزارة التربية بخصوص مصير اللغة الروسية، على الرغم من اتّصالات عدة ومجموعة من الأسئلة المكتوبة المرسلة إلى المكتب الإعلامي في الوزارة.
جزيرة أرواد بلا روسيا!
يوم سقوط النظام، تراجعت القوّات الروسية إلى قواعدها، يومها شاهد أحمد بصو (47 عاماً)، أحد سكّان جزيرة أرواد، خروج الجنود من الجزيرة. بصو، الذي يعمل مهندس ميكانيك وصيّاد سمك، يشير إلى ما هو أبعد من الأثر الثقافي لـ”التدخّل” الروسي في الجزيرة، الذي يتمثّل بتعليم الأطفال اللغة، إذ يخبرنا أن الروس استخدموا الصيد بالمتفجرات كأداة لـ”محاربتهم بمصدر رزقهم”، الأمر ذاته يشير إليه أحمد فحل (81 عاماً) الملقّب بـ”الريّس” ويعمل صيّاداً وغواصاً.
يقول “الريّس” لـ”درج”: “نهبوا البحر، 5 أو 6 أطنان باليوم من المتفجرات لحد سقوط النظام، وأنت قاعد بالجزيرة بتسمع صوت المتفجرات. لأنو كانوا يفجروا وما حدا يحكي معن. المتفجرات كانت تستخدم من 70 سنة، ولكن بالأزمة زادت. كانوا يستخدموا المتفجرات بمنطقة اسمها المنطار والحميدية”.
نتيجة هذا “الأسلوب” حسب شهادات الصيّادين، لم يعد الصيّادون في الجزيرة قادرين على “العمل” قرب بيوتهم وفي “مياههم”، وأصبحوا مضطرّين لكسب الرزق أن يبحروا مسافات طويلة وبعيدة عن الشاطئ لتأمين قوت عائلاتهم ورزقهم.
يضيف “الريّس”: “هلا بندخل 100 دولار عن طريق 15 كيلو سمك، وفي بالقارب 5 لـ6 صيادين وبندفع 25 دولار لـ20 لتر بنزين القارب، الدخل الضعيف مقارنة بالماضي كتير قليل لأن الدنيا غلا، الانتقال عالصيد ما عاد يكفي!”.

الصيد بالديناميت هدّد السواحل السورية لسنوات طويلة، بل ساهم في انخفاض أعداد الأسماك والكائنات البحرية كــ”اللقز البحري”. يخبرنا عاطف الفحل ابن “الريّس” (صيّاد وبحّار من أرواد)، أن الجنود الروس “فرضوا أتاوات تصل إلى مئة دولار للسماح لسكّان الجزيرة بالصيد”، ويضيف: “أحياناً كانو يسرقون ما نصطاده”.
ويكمل “الريّس” حديثه: “ممنوع كسح ابني (طلعو معي عالصيد) لانو هن (الروس) اللي كانوا يرموا المتفجرات وممنوعين نحن نروح للأماكن اللي فيها ثروة سمكية. هن اللي اصطادوها بالمتفجرات وهن يجوا يخلصونا السمكات. الروس منعونا من الجزر اللي اسمها الحباس وأبو علي والمخروط، لأن فيهم الثروة السمكية واللي بدو يروح الأمن يدفعنا مية دولار ولرئيس ميناء أرواد تحديدا. والمتفجرات كانت بشكل لا يوصف”، ويتابع مستحضراً الماضي أن “صيّادي “الزيرة”، كما يطلق عليها سكّانها، كانوا يصطادون ما بين أربعين وخمسين كيلوغراماً يومياً من السمك قبل العام 2011، لكنّهم اليوم يعودون بعد ثماني ساعات بما لا يتجاوز خمسة عشر كيلوغراماً، يتقاسمونها في ما بينهم. يتنهد “الريس”ويردف: “من 2010 حتى 2012 كان السمك معبا الدنيا يعني قد هلأ أربع خمس مرات، وبالأول ما كان في جهد، هلأ في جهد، بالأول يغيب الصياد 3 أو 4 ساعات يجيب كمية محترمة، هلأ بيطلع من المسا للصبح وما بجيب ربع الكمية، هلأ بيطلعو قبل المغرب من هون بيرموا صنانريهن، وقبل العشرة الصبح بيرجعوا والكمية قليلة، بالأول كانو يطلعوا السمك بالسحاحير، وهلأ بيطلعوها بكياس النايلون”.
التعليم في سوريا و”الأثر الروسي”
ملفّ التعليم في سوريا واحد من الملفّات الشائكة، يبدأ باختلاف المناهج بين مناطق سيطرة “قسد” والحكومة الجديدة، مروراً بتغيير أسماء المدارس، انتهاءً بالتعديلات على المناهج الدراسية التي أثارت موجة انتقادات كبيرة، لكنّ ملفّ اللغة الروسية في المدارس وما يحمله من إشكاليّات تتعلّق بالتاريخ الوطني والهويّة السورية ما زال غامضاً، ففي العام الدراسي (2025-2026) توجّه حوالى 4 ملايين طالب إلى مقاعد الدراسة، و”الأثر” الروسي في هذه العمليّة غير واضح، لا على مستوى “السردية الوطنية الجديدة”، ولا على مستوى الأطفال الذين تعلّموا الروسية، هذا الملفّ الشائك إشكالي، خصوصاً أن روسيا استخدمت حقّ النقض “الفيتو” 18 عشر مرّة في مجلس الأمن، 4 مرّات قبل التدخّل العسكري في سوريا و14 بعدها، دفاعاً عن النظام السوري.
بعد سقوط النظام، لم يتمّ التعامل مع روسيا كدولة شاركت في قتل السوريين، وقصف مخيّمات ومزارع في إدلب، المحافظة التي كان “يقيم” فيها رئيس المرحلة الانتقالية الحالية أحمد الشرع، الذي زار روسيا وشدّد على العلاقات التاريخية بين البلدين، ونظرية “الدرج” وصعوده للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي “يستضيف” بشّار الأسد كلاجئ إنساني، ولن يسلّمه إلى القضاء السوري أو الدولي.
علاقات روسيا وسوريا قديمة لا يمكن إنكارها، لكن ألا ينبغي أن يكون هناك نوع من الحساب للمتضرّرين والضحايا، على الأقلّ في الأماكن التي قصفتها روسيا؟
- درج


























